
نعيمة الأيوبي: أول مصرية ترتدي روب المحاماة
كنت أظن أن مفيدة عبد الرحمن هي أول محامية مصرية وكتبت مقالًا بشأن هذا الموضوع بناءً على ما قرأته في مواقع كثيرة، ولكني اكتشفت بعد حوالي سنتين من كتابة مقال مفيدة عبد الرحمن أن نعيمة الأيوبي هي أول امرأة مصرية درست في كلية الحقوق، وارتدت روب المحاماة، ومارست مهنة المحاماة.
نشأت نعيمة الأيوبي في أسرة تقدس العلم والتعليم، وساعدها والدها كثيرًا لتهتم بدراستها، وتأثرت كثيرًا بعمها المحامي. ولم يكن التحاقها بكلية الحقوق أمرًا سهلًا، ولم يكن عملها بالمحاماة أمرًا سهلًا، وحاربت كثيرًا لتثبت وجودها وتلفت الأنظار إليها، إلى أن كتبت الصحف والمجلات عنها ونشرت صورها.
ساعدها الدكتور طه حسين كثيرًا، وكتبت عنها مي زيادة في كتابها ” كتابات منسية”، وكتبت عنها أيضا رباب كمال في كتابها “نساء في عرين الأصولية الإسلامية”، وتحدثت عنها هدي شعراوي في مذكراتها.
وبسبب الضجة الكبيرة التي أحدثتها، ذكرها عبد المنعم شميس في كتابه “شخصيات مصرية”، وكتب عنها الكاتب الصحفي عبد الله نوفل مقالًا نُشر بجريدة الجمهورية.
وترافعت في قضيتين كانتا السبب في شهرتها وتمكنت من كسبهما، واعتزلت المحاماة بعد زواجها وتفرغت للخدمة الاجتماعية.
نشأة نعيمة الأيوبي
ولدت نعيمة الأيوبي في مدينة الإسكندرية، وترعرعت في كنف أسرة مُحبة للعلم والتعليم، وهي كريمة المؤرخ الفلسطيني إلياس الأيوبي الذي ولد في عكا ودرس فيها، ثم انتقل إلى القاهرة للدراسة في المدارس الفرنسية والإيطالية. واشتغل والدها بالتدريس، ثم مُترجما في وزارة الحقانية، ثم في مجلس الشيوخ.
وشجع الأب ابنته على القراءة والثقافة والتعليم، وكان مهتمًا بدراسة التاريخ، وبرز فيه وله عدة مؤلفات منها: “تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا”، وكتاب “قطف الأزهار في أهم حوادث الأمصار”.
وتلقت نعيمة تعليمها الابتدائي في مدرسة محرم بك الابتدائية بالإسكندرية، ثم انتقلت إلى القاهرة والتحقت بمدرسة البنات الثانوية بالحلمية الجديدة. وتوفي والدها وهي لم تزل في بداية رحلتها التعليمية، ولكنها تأثرت بعمها المحامي كثيرًا الذي كان يفخر برداء المحاماة ويصفه برداء الشرف والعدل، وساهم كثيرا في جعلها شغوفة بمهنة المحاماة منذ صغرها.
العوائق التي واجهت نعيمة في الدراسة والعمل
تحكي نعيمة أن دخولها الجامعة المصرية لم يكن أمرًا سهلًا، فلقد التحقت بالجامعة رغم أنف المتزمتين والرجعيين الذين نصبوا أنفسهم حماة العادات والتقاليد.
وفي احدي المرات، تجمهر هؤلاء المتشددون أمام الجامعة ليمنعوا الطالبات من الدخول، وتحدثت الأيوبي عن شعورها بالعزلة الشديدة داخل الجامعة، وكيف أن الطلبة كانوا ينظرون إليها ولزميلاتها الطالبات وكأنهن كائنات غريبة تظهر على الأرض لأول مرة، وكيف أن الأنظار كانت تتبعهن أينما ذهبن، وكأنهن تحت الملاحظة.
وعندما تعدت السلطات على استقلالية الجامعة، ثارت نعيمة مع الثائرين، ثم وقفت لتخطب في حوالي 1800 طالب الذين دهشوا كثيرًا من موقفها، ووصفوها بأبي الهول الذي تحدث أخيرًا بعد صمت طويل.
وعندما تخرجت نعيمة من الجامعة، خاضت حروبًا لتحصل على إذن بممارسة مهنة المحاماة، ولم يتقبلها في بداية الأمر المحامون الذكور، بل ورفضوا أن تخترق صفوفهم وأعاقوا قيدها في سجلات المحامين.
ولكنها لم تستسلم، وبعد مناقشات مستفيضة، حصلت على أحقيتها لتصبح أول محامية في تاريخ نقابة المحامين المصريين.
دور الدكتور طه حسين
تآمر الدكتور طه حسين، ومعه مجموعة من الجامعيين المستنيرين، من أمثال أحمد لطفي السيد باشا وعلي إبراهيم باشا، وقرروا أن يخدعوا الحكومة المصرية ويضللوها، وذلك بقبول فتيات تقدمن للالتحاق بالجامعة المصرية في وقت حرج، وهن: نعيمة الأيوبي، وسهير القلماوي، وزهيرة عبد العزيز، وفاطمة فهمي، وفاطمة سالم.
وطلب منهن الدكتور طه حسين التزام الصمت التام بشأن قبولهن في الجامعة. وبالفعل التزمت نعيمة وزميلاتها الصمت حتى حانت اللحظة الحاسمة، وأعلن الدكتور طه حسين أن نعيمة وزميلاتها يدرسن بالجامعة بشكل رسمي.
ووافقت وزارة المعارف وقتها على قبول دفعات جديدة من الطالبات ليدرسن بجامعة القاهرة بشكل رسمي ومشروع. وبعد تخرج نعيمة وزميلاتها من الجامعة، أعلن الدكتور طه حسين في حفل تخرج نعيمة وزميلاتها، الذي أقامه الإتحاد النسائي المصري برعاية هدى شعراوي، عن “مؤامرته” المستنيرة، ودوره في مساعدة نعيمة وزميلاتها للالتحاق بالجامعة.
مي زيادة عن نعيمة الأيوبي
ذكرت مي زيادة في كتابها “كتابات منسية” أن نعيمة الأيوبي لم تحصل على إذن بممارسة المحاماة إلا بعد احتجاجات واسعة. وذكرت أيضا أن نعيمة الأيوبي عُينت عام 1935 أول مُفتشة لعمل النساء في دائرة العمل بوزارة الداخلية، كما تخرجت أيضًا في مدرسة الخدمة الاجتماعية التابعة لجامعة ليج في بلجيكا، لتتولي بعد عودتها للقاهرة منصبًا في وزارة الشؤون الاجتماعية المستحدثة عام 1939، وكانت عضوًا ناشطًا في الإتحاد النسائي المصري.
رباب كمال عن نعيمة الأيوبي
تقول رباب كمال في كتابها “نساء في عرين الأصولية الإسلامية“: “إن عام 1933 سطر فصلًا جديدًا في حياة المرأة المصرية بحصول نعيمة الأيوبي على شهادة ليسانس الحقوق، وممارسة مهنة المحاماة رغم رفض الذكور انضمامها لصفوفهم وإعاقة قيدها في سجلات المحامين، ولكنها لم تستسلم، وبعد مناقشات مستفيضة حصلت على أحقيتها لتصبح أول محامية في تاريخ نقبة المحامين المصريين”.
هدي شعراوي عن نعيمة الأيوبي
قالت هدي شعراوي في مذكراتها عن الاحتفال بأولى خريجات جامعة القاهرة: “في شهر فبراير 1932، دعوت عددًا كبيرًا من أعلام مصر وعظمائها لحضور احتفال الجمعية بأولى خريجات الجامعة وأول طيارة مصرية، وقد لبى الدعوة عدد كبير في مقدمتهم الأمير محمد باشا، والدكتور بهي الدين بركات باشا، وأحمد شفيق باشا، ومحمد علي علوبة باشا، وقد تصدر المنصة الدكتور طه حسين وقرينته والأنسة نعيمة الأيوبي، وخريجات كلية الآداب الأنسة سهير القلماوي، والآنسة فاطمة فهمي خليل، والأنسة زهيرة عبدالعزيز، والآنسة فاطمة سالم”.
وأشارت شعراوي في مذكراتها إلى أن محمد علي علوبة باشا قدم للآنسة نعيمة الأيوبي روب المحاماة هدية من الإتحاد النسائي ثم قال: “والآن يا حضرة الزميلة قد تفضل الإتحاد النسائي وأهداكِ هذا الثوب، رداء المحاماة، رداء الشرف والعدل والشهامة، فصونيه واعلمي أن هذا الإتحاد يعطيكِ هذا الثوب طاهرا نقيا، فاحفظيه طاهرًا نقيا”.
عبد المنعم شميس عن نعيمة الأيوبي
قال عبد المنعم شميس في كتابه “شخصيات مصرية” الصادر عن الهيئة العامة للكتاب: “نعيمة الأيوبي أول فتاة مصرية ارتدت ثوب المحاماة ودخلت قاعات الجلسات في المحاكم، فكانت في الجيل الماضي أول محامية مصرية مع أن بنت جنسها، الأستاذة منيرة ثابت، حصلت على ليسانس الحقوق من باريس في جيل سابق كجيل نعيمة الأيوبي، ولكن منيرة ثابت لم تستطع الدخول من باب نقابة المحامين أيام الزعيم سعد زغلول، فاشتغلت بالصحافة وأصدرت مجلة الأمل باللغتين العربية والفرنسية، وشجعها الزعيم على احتراف الصحافة؛ لأنه لم يمكن في الاستطاعة عملها بالمحاماة”.
وأضاف شميس قائلا: “عندما نُشرت صورة نعيمة الأيوبي في الصحف وهي مرتدية روب المحاماة، كان الناس يتفرجون على الصورة بإعجاب شديد، وأحس كل واحد أنها أخته أو ابنته”.
عبد الله نوفل عن نعيمة الأيوبي
أجرى الكاتب الصحفي عبد الله نوفل حوارًا صحفيًا مع نعيمة الأيوبي وكتب مقالًا به تفاصيل حول حياة نعيمة الأيوبي من خلال حواره معها، وأشار في مقاله إلى أن نعيمة الأيوبي هي أول فتاة تدخل كلية الحقوق، وتتخرج فيها قبل مفيدة عبد الرحمن وعائشة راتب، كما أنها أول سيدة تعمل بالخدمة الاجتماعية بمصر، مؤكدًا أنها اشتغلت بالمحاماة لمدة سنة ونصف السنة فقط، ورغم قصر هذه المدة فإنها كانت حافلة بالذكريات.
القضيتان الشهيرتان في حياة نعيمة الأيوبي
ترافعت نعيمة الأيوبي في قضية في شبين الكوم عن فتاة طالبت بالحصول على تعويض من صيدلي لفسخه خطبتها، وكسبت الأيوبي القضية وحصلت الفتاة على التعويض.
وترافعت الأيوبي أيضًا في قضية دافعت فيها عن ثلاثة من رموز الحركة الوطنية ضد الاحتلال الإنجليزي، فتمكنت من تبرئتهم والإفراج عنهم.
اعتزال نعيمة الأيوبي المحاماة والتفرغ للخدمة الاجتماعية
قالت نعيمة الأيوبي في حوارها مع الصحفي عبد الله نوفل: “لقد طلقت المحاماة بعد أن تزوجت، واتجهت إلي الخدمة الاجتماعية فعملت بها متطوعة، وكنت أول من اقترح على علي ماهر باشا إنشاء وزارة للشؤون الاجتماعية، كما ساهمت مع عبد الحميد باشا عبد الحق في إنشاء 23 مكتبًا للمساعدات الاجتماعية ومئات المطاعم والحمامات الشعبية، كما أني جمعت مليون جنيه تبرعات لإنشاء المدينة الجامعية”.
وعاشت الأيوبي فترة طويلة في الخارج مع ابنها وابنتها بعد وفاة زوجها المستشرق المعروف الذي كان أستاذًا بجامعة القاهرة، وعندما عادت إلي مصر قررت أن تقضي بقية حياتها في الخدمة الاجتماعية التي عشقتها طوال حياتها.
بالطبع سعدت بالقراءة عن حياة نعيمة الأيوبي، ولكني حزنت في نفس الوقت؛ لأنها لم تستمر في عملها بمجال المحاماة لتدافع عن المظلومين كما كانت تحلم في بداية حياتها. وللأسف، هذا واقع الكثير من النساء في مصر، فطموح المرأة المصرية ينتهي دائما بالزواج أو الموت المعنوي أو الفعلي.
ورسالتي لكل امرأة طموحة تقرأ مقالي أن تسعى دائما لتحقيق أهدافها وألا تقف عاجزة أمام العوائق.



