أصول الروشنة

حواديت قبل الاكتئاب – ارادة التعافي النفسي

أصول الروشنة – قرأت لكي

أنا أنظر إلى المادة التي حولتها إلى وسم فراشة، لا تكف عن الطيران، وارتشاف رحيق كل زهرة تقابلها.
اقتبست هذه العبارة من آخر صفحة من رواية “حواديت قبل الاكتئاب”، للمبدعة الشابة هند عزت، وهي رواية ليست كمثيلاتها من الروايات، ولكنها غوص في النفس البشرية المعقدة، فمن منا لم يعاني آلاماً مبرحة ناجمة عن صدفة أو تجربة صادمة في الطفولة، ومن منا لم يتألم بسبب صداقة مزيفة أو بسبب شريك مضطرب نفسياً، أو أب أو أم قاسية قلوبهما. من منا لم يتعامل مع زميل عمل مؤذي أو حاقد.
نتقابل في كل يوم، ومنذ نعومة أظافرنا، مع شخصيات غير سوية ومريضة، ولكننا لا ندرك أن هؤلاء مرضى، لأننا لسنا بأطباء نفسيين. والطامة الكبرى هي أن تكون الشخصية المسببة في جرحنا الغائر، هي الأم، والتي من المفترض أن تكون منبع الحب والثقة والحنان.
وتأخذنا الكاتبة هند عزت في رحلة عذاب الطفلة مها من البداية. فلمها أم قاسية، متيبسة المشاعر، أم تغار من ابنتها، ولا تغار عليها، حتى نصدم بأن الطفلة مها تتعرض للتحرش من الخال. ورغم ذلك، فالأم تستنكر استنجاد ابنتها بها، ولا تصدقها.
تستمر رحلة عذاب الابنة ومعاناتها مع الام النرجسية، حتى تصل بنا الكاتبة إلى تمرد مها، التي تقرر أن تلجأ إلى الطبيب النفسي، وهو بمثابة الأب البديل لمها، فأباها، ورغم حنانه، إلا أنه ضعيف، ويرضخ دائماً لتسلط الأم وجبروتها تجنباً للصراع.
تبدأ رحلة مها مع الطبيب النفسي والطب النفسي والأدوية، وتأخذنا الكاتبة على مدار حوالي عشرين عاماً من التحدي والإرادة. فمها تمر بانتكاسات وتصدم في صديقة العمر ماري وبعض الرجال في حياتها، رجال يرفضون فكرة أنها تتشافى وتتعافى، ويحبون المرأة الضعيفة والاعتمادية، فتفشل مها الحساسة في علاقاتها مع الجنس الآخر، إلى أن تلتقي وحبها الأول، ولكنها لا تسعد كثيراً لأنه يموت موتة قاسية، تبكينا، وتغرق مها وتعزف عن العلاقات، وتتمرد مرة أخرى بعد موت الحبيب. ثم يموت الأب الحنون، وتستمر في رحلة العلاج والجرح والألم.
إبداع الكاتبة هنا يكمن في تعرفنا على الطب النفسي وعلم النفس عبر التفاصيل والجلسات مع الأطباء والحوارات، التي تأتي حقيقية وواقعية. ويسهل على القاريء أن يتوحد تماماً مع مها، فمها ليست مريضة نفسية، وإنما ضحية لمرضى نفسيين، أولهم الأم، ثم الصديقة، ثم الرجال، ناقصي الثقة.
نتعرف مع مها على مصطلحات نفسية بشكل مبسط، فنتعرف على الشخصية النرجسية، ومرض narcissistic personality disorder، والشخصية الاعتمادية codependent personality، والشخصية الإنطوائية introvert. وإذ نطوي صفحات الرواية، نتعرف على هذه المصطلحات بشكل سلس ومبسط، ونقرأ الرواية وندرك أن كل منا لديه مشكلة نفسية، ونحتاج إلى رحلة مشابهة لرحلة مها. فالرواية تنزع وصمة العار التي تلاحق الكثيرين، بسبب ترددهم على الطبيب النفسي.
وتأتي الرواية لتطمس فكرة العار، المقترن بمن يذهب إلى الطبيب النفسي، فمها ليست مريضة، وإنما تعيش في مجتمع مريض. هي إنسانة حساسة وفنانة، وضحية. أما المرضى الحقيقيون في حياتها – أو حياتنا – فلا يدركون حقيقة مرضهم، ولا يذهبون للطبيب طلباً للعلاج. أما مها، فهي شجاعة، تتعلم كيف تتعامل مع هؤلاء، وكيف تسترد إرادتها وثقتها، فتستكمل رحلة التشافي والتصالح مع النفس، مع الدكتورة جيهان، وهنا نقطة الإنطلاق.
تتعرف مها على حب جديد، أمل جديد، ثقة جديدة، ولكنها تخوض هذه العلاقة الجديدة بعد صراع وخوف. فرويداً رويدأً تتشافى وتتعافى مع توأم روحها، وتتوج رحلة التعافي تماماً عندما تتسامح مها ماضيها، وتتحول إلى أم رائعة، بعد أن كانت فكرة الامومة أكبر مخاوفها.
وبالإرادة والحب، تشفى تماماً. فتأتي رسالة الكاتبة ببريق من الأمل لكل نفس تألمت أو جرحت بسبب مرضى لا يعرفون ولا يدركون. وتتحول ندبتها .. لوشم فراشة.

بواسطة
نهاد هليل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى