الفنون

تذكرة واحدة لرحلة أخيرة

دقات قلبه تزداد بقوة، تتسارع بلا مكابح، قدماه تلتهمان المسافة الواصلة من ميدان رمسيس، حتى محطة القطار، يتشبث بحقيبة ظهره الثقيلة، يشعر كل حين أن جسده يستعد للسقوط مع هرولته، وكلما احتفظ بتوازنه مرة، ابتسم وأكمل.

يلمح طفلا يتوسد الأرض مع لعبة ممزقة قرب بوابة المحطة ويضحك، يقهقه ساخراً وهو ينظر إليه، و”شيالا” يتشبث بحقيبة ضخمة، مع ظهره المنحني كأنه سفح جبل، يهرول بكل رشاقة،  يحسد هذا الشيال على توازنه العجيب رغم ثقل حمله.

يتشمم رائحة الجرائد مختلطة بالعرق، تسري في الأنحاء رائحة طعام فاسد، عقله مثل قلبه يتسارع بلا هوادة، رائحة القضبان تقترب، تتشبع روحه بذكريات صُنعت من ألمه وأمله، يحمل تذكرته الأخيرة.

يهوى السفر الأخير؛ ففيه يدرك تفاصيل الرحلة، كأنها الوداع، توقف لحظة، نظر حوله، كل شيء يدعوه للفرار، للهروب من دنيا الزحام والضجيج والفقر، لكن قلبه يتوجس خيفةً من المجهول.

عاش عمرا يعمل في القاهرة المزدحمة، تعوّد على رائحة هوائها المتشبع بالدخان والأتربة، وأهلها المغرمين بالصياح والعراك، هذه الرحلة أخيرة، بلا عودة، بعد أن قرر صاحب محل الملابس الذي عمل فيه لعشر سنين أن يغلقه؛ فلم تعد تجدي التجارة هنا، ولا العمل.

يتأكد من ميعاد قطاره المنتظَر، لقد حل موعده، لكن لا قطار. سأل عن رحلته، أخبروه أن قطاره سيتأخر، امتزج داخله شعور بسعادة خفية مشبوبة بحذر، سيقضي سويعات أخرى في القاهرة، جلس يلتقط أنفاسه، يلملم شتات نفسه المبعثرة.

قلبه لم يهدأ رغم جلوسه، تتسارع دقاته، عيناه غائرتان من التعب، رأسه مزدحم، يلملم هو الآخر ذكرياته المبعثرة، وسط المحطة. لم يعد يسمع شيئا، غير صفير عالٍ. رأسه مثقل، قدماه ما عادتا تقويان على الوقوف، جسده يأبى.

للحظة انقطع الصفير، سمع ميكروفون المحطة يعلن وصول قطاره، حاول النهوض مجددا، خانَتْه قدماه، وخذلَه جسده، واستسلم عقلُه لدنيا أخرى لم يرها سبقها ظلام دامس، سقط، وسقطت تذكرة رحلته الأخيرة، التف الناس حول الجسد الهامد، بينما التقط أحد المارة تذكرته، واستقل قطاره!

بواسطة
أحمد النظامي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى