أصول الروشنةالعلاقات الأسريةفضفضي واحكيلنا

أخاف

طيلة حياتي أخاف من أي جهاز كومبيوتر، أو أي جهاز به تقنية عالية … طيلة حياتي اتعثر عندما استخدم الحاسوب أو اضطر إلى تعلم تطبيق جديد … لا أواكب العصر … ثم جاءت الكورونا منذ بضعة سنوات وجاء معها تقدم غير مسبوق في التكنولوجيا والدراسة والتدريس عن بُعد …

جاءت مع الكورونا … العمل عن بعد .. والوظيفة المنزلية … جاءت مع الكورونا الاجتماعات بالزووم والمؤتمرات والمقابلات عن بعد … كلمات جديدة ومفاهيم عجيبة … فهناك الواقع الافتراضي .. والمقابلة الافتراضية … وحتي الحب والعلاقات الافتراضية …

لا اعرف ان كان هذا بالأمر الجيد أم لا … فمع كل هذا التقدم والراحة النوعية … هناك أمر مخيف يتخلل وجداني … فكلما تقدمت برامج الكميبوتر، كلما اصبت بالخوف والاضطراب … ورغم ذلك لا استطيع فراق هاتفي الجوال كثيرا .. وكأن هذا الجهاز الصغير يملكني، ويتحكم في دوران حياتي …

فانا اتواصل به .. وابحث عن المعلومات به .. واطلب لوازم المنزل به .. واطلع على واجبات ابنتي عن طريقه .. واشعر انه جزء لا يتجزا من كياني …

افقد عقلي، اذا انقطع النت أو الكهرباء .. اشعر بالجوف والفراغ بدونه … لا استطيع الاستغناء عنه .. رغم انه يتملكني الغيظ بسبب تحكم التكنولوجيا في حياتي .. اغضب كثيرا لأنني تحولت إلى عبدة من عبيده .. لا تستقم الحياه بغيره .. ولا يمكنني الفرار من اسوار سجنه…

أخاف ..

أخاف من سيطرته على عقلي وعلى حياتي .. أخاف من فقدي لحريتي وراحة بالي …

احبه واكرهه في آن واحد ..

أخاف منه رغم تيسيره لحياتي .. واكرهه بسبب تكبيله لحياتي ..

لا أجد منطقة وسطى … علاقة معقدة بيني وبين التكنولوجيا ..

أحاول ان اتصور حياتي بدون الهاتف الجوال وبدون اللاب توب كما يسمى … أحاول ان استعيد ذاكرتي … قبل ان تسيطر هذه الأجهزة على تقريبا كل تحركاتنا …

فبالنسبة للتواصل … كنا نضطر للقيام بالزيارات أو المشاوير … للاطمئنان على صديق أو أحد الأقارب … كانت الزيارات أكثر و أعمق .. فالزيارة بمثابة نزهة ترفيهية .. وعندما نتزاور، نجلس معا .. نتحدث ونتسامر ونتبادل أطراف الحديث … ولا يوجد من يمسك بهاتفه أو ينشغل عنك بقطعة من الحديد …

فالحديث له احترامه .. ونستمع لبعضنا البعض بشغف وانصات .. لأننا لم نلتق منذ مدة … والقصص كثيرة والتفاصيل جميلة …

رجعت بذاكرتي … فوجدت أن أسرتي كلها تجتمع معا … للاستمتاع بالأكل والحديث .. فوقت الغذاء على الخصوص له قدسيته … وأعود لذاكرة الدراسة … كنا نتهاتف عن طريق التليفون الأرضي … لاستكمال بعض الواجبات أو للسؤال عن  زميلة دراسة قد غابت … كنا نستاذن  الأهل عن طريق الهاتف … لنزور هذه الصديقة ونقدم هدية بسيطة  تخفف عنها … لم نعرف هذه الكروت اللالكترونية او المعايدات الجاهزة التي ترسل للجميع … فكل شخص له تفرده … ومعايدة مختلفة وشخصية … لم نكن نعرف العزاء عن طريق الفيس بوك أو الواتساب … كنا نعرف بالوفاة من الجريدة أو الهاتف .. ونذهب للمنزل أو لأهل الفقيد في منتهى السرعة .. لأن واجب العزاء كان مقدسا …

إذا تأخرنا في خروجتنا .. نجد أمنا مترقبة ومتحفزة، تقف بالشرفة في انتظار عودتنا؛ لأن ليس لديها أي وسيلة غير ذلك … اتذكر أمي وهي قلقة ومرتابة … واتذكرها وهي غاضبة وساخطة لهذا التأخير …

ارجع بذاكرتي … واتذكر أننا كنا انشط حركة وأصح نفسيا … نمشي كثيرا ونتجول … الوقت يمضي لطيفا … كل المشي والحكي والتزاور له طعم … وصحتنا الجسدية بخير … وصحتنا النفسية بخير …

اتذكر صعوبة الحصول على المعلومات البحثية والعناء الشديد للحصول على كتاب أو مرجع في المرحلة الدراسية وفي مرحلة الدراسات العليا … ولكن مع كل هذا التعب … كنا نجد متعة عجيبة حين نحصل على هذا الكتاب أو ذاك المرجع … وكانت المشقة جزء من المتعة ..

أما اليوم … فثورة التقنية المعرفية حولت عملية البحث إلى مهمة يسيرة وسريعة … اشكر هذه الثورة على ما تقدمه لنا من علم ومعلومات … ولكن في نفس الوقت …

أخاف …

أخاف من المجهول … وأخاف من الاستسهال …

أخاف من فقد مهاراتي القديمة … وهي الجلوس والاطلاع لساعات طويلة بالمكتبات العامة … اتذكر ايضا مراسالاتي مع عدد من الاصدقاء والصديقات … ولهفة شراء الطوابع … وكتابة الرسالة بخط اليد …

اتذكر فرحتى وأنا اقرأ كارت بوستال من والدي .. وهو يبعث لي هذه الرسالة المحبة ونبذة عن البلد التي يزورها …

كنت افرح جداً عند أتلقى رسالة من أحد الأصدقاء، ردا على رسالتي التي ارسلتها منذ أسابيع طويلة … كم كانت فرحتى … أخيراً …ما أجمل الخطاب وما أجمل الخط …

لا أظن أن هناك اليوم من يبعث رسالة ورقية، مكتوبة بخط اليد … فكلنا نتراسل بالرسالة الالكترونية أو نتواصل بالواتساب وما شابه هذا من تطبيقات …

حياتنا الاجتماعية اختزلت في رسائل صوتية أو ما تسمى مسجات أو تشات …

تقاربنا وتباعدنا في آن واحد …

أخاف من هذا الشعور … فأنا أيضا لا أرغب في القيام بزيارات … وأفضل استخدام هاتفي السحري للاطمئنان على الأحباب …

فقدت الشغف في التجول والتجوال … وسلمت نفسي للجوال …

فهو يقوم بهذا الدور بديلا عن المشاوير … أصبحت كسولة .. اشتري عبر النت .. واتزاور عبر الواتساب .. اعتدت التباعد الاجتماعي .. واستغرب الأحضان والسلامات …

أخاف من هذا التحول وهذا التحور …

وللحديث بقية …

بواسطة
نهاد هليل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى