الفنونمقهى النصف الآخر

الأحـلام الـورديـة

ظلت تبكي طوال الجلسة وهي داخل القفص الحديدي .. وفي نهايتها وقف القاضي يتلو الحكم .. لقد طبق عليها أقصي العقوبة ثلاث سنوات مع الشغل .. فماذا فعلت بنت العشرين من عمرها .. لكي تقضى أحلي سنوات شبابها في الزنزانة؟

ارتفعت الزغاريد في المساكن الشعبية التي يئن سكانها تحت وطأة الفقر .. بعضهم جاء من قريته .. سكن القاهرة الكبرى أيام الزمن الجميل .. الذي كان فيه الملاك يبخرون شققهم لكي ينجذب إليها السكان .. ولكن مع الأيام تصدعت بيوتهم وعاشوا في المساكن الشعبية .. التي غالبا ما تجمع بين الطبقات الاجتماعية المختلفة … تساءل السكان لماذا هذه الزغاريد؟ هل تزوجت فلانة؟ أم ماذا؟

وكان الرد – لقد نجحت راندا في الثانوية العامة وتستعد لدخول الجامعة .. لم تكن السعادة واضحة علي وجهها مثل كل الناجحين .. وإنما كان تمردها علي بيئتها هو القاسم المشترك في حياتها .. جمالها المتوسط .. كان يداعب خيالها .. تتساءل لماذا لا تقيم في منطقة راقية مثل أولاد الذوات .. فهي لا تقل عنهم شيئا ..

تفيق من التفكير علي صوت أمها وهي تطلب منها أن تحمل القفص لكي تذهب معها للسوق لكنها تمشي كالحصان المجروح .. تعنفها أمها في الطريق وهي تقول لها: لا أدري، أنت بنت باشا ولا إيه! هل نسيت نفسك يا بنتي .. أرجو منك أن تعيشى مثل أشقائك الذين قبلوا حياة الفقر والحرمان وأصبحت دستورا  لهم .. يا بنتي المياه لا تطلع العالي أبدا .. هذه نصيحتي لك في الحياة وأنت مقبلة علي المرحلة الجامعية ..

بدأ العام الدراسي .. توجهت راندا للجامعة، هذا العالم الجديد المفتوح .. فيه كل ألوان الطيف .. الغني والفقير والمتوسط وابن الباشا وابن البواب .. لم تفكر في التفوق الدراسي مثل أبناء الطبقات الضعيفة الذين لا هم لهم سوي النجاح بتفوق آخر العام .. إنهم يعتبرون الجامعة مباراة لابد لهم في نهايتها تحقيق النجاح ..

اقتحمت راندا الحياة الجامعية وهي تبحث عن شيء .. الصداقة مع بعض زميلاتها وليس كلهن .. إنها كالغريق يبحث عن النجاة فقط .. اقتربت من احدى زميلاتها .. التي كانت ترتدي أغلي الثياب وتفوح رائحة عطرها علي أبواب قاعة المحاضرات ..رمقتها بعينيها .. صوبت نظراتها نحوها .. جمعت تحرياتها عنها.. لقد عثرت علي ضالتها .. زميلة ثرية ووالدها مسئول كبير .. واعتبرت أن صداقتهما بمثابة الخروج من دائرة الفقر التي تعانيها ..

توطدت أواصر الصداقة بينهما طيلة سنوات الدراسة .. كانت تزورها في فيلتها بالمهندسين، تقف في حديقتها لكي تستمتع بالنسيم العليل .. وعندما تعود إلى شقتها الضيقة بالمساكن الشعبية، تندب حظها رغم أن زميلتها كانت تعطف عليها، إلا أن التواضع كان خلقها .. كثيرا ما عنفت راندا علي نظرتها التشاؤمية للحياة .. فهي قدر ولا دخل للإنسان في اختيار مصيره .. ولابد له أن يؤمن بالقضاء والقدر حتى تستريح نفسه .. أما إذا سار وراء وساوس الشيطان، فإنه يتعرض لأزمات نفسية وعصبية قد تعصف به ولا يجني من ثمارها إلا ما كتبه الله سبحانه وتعالي .. ولكن راندا لم تقتنع بأفكار زميلتها وتركت العنان لأحلامها وطموحاتها المريضة تفعل بها كما تشاء .. تخرجت فى الجامعة وعملت فى محل خردوات، كان يضايقها زحام المواصلات صباحا ونفس الشئ مساء ..

جلست تسترجع أفكارها وعادت بها الذاكرة للوراء أيام الدراسة الجامعية، وقررت لماذا لا لا تستعين بزميلتها الثرية فى البحث عن عمل فى إحدى الشركات التى يرأسها والدها؟

أدارت قرص التليفون وسألتها عن أحوالها .. وهل تزوجت أم لا؟

لا يا راندا أنا مازلت في انتظار ابن الحلال .. وأنت ماذا فعلت بك الأيام؟

تتنهد راندا وتقول أنا مازالت غارقة في دوامة الفقر يا صديقتي، واطلب منك أن تتحدثي مع والدك حتى احصل علي فرصة عمل مناسبة ماديا واجتماعيا ..

حاضر ياراند .. ما هي إلا أيام قليلة وسأزف لك خبر تعيينك ..

عاد الأب من الخارج وطلبت منه ابنته عمل لراندا .. وافق علي الفور وقال لابنته: كيف أحوالها؟ لم تعد تزورنا مثل أيام الدراسة ..

هي مشغولة يا بابا مع والدتها في السوق وعلي العموم يمكن عملها في الشركة يجعلها تزورنا.

يضحك الأب ويقول لابنته: هل صديقتك مازال الكبرياء يتحكم فيها؟

نعم يا بابا .. هي طبعها كده .. انسانة متكبرة جدا .. فوق طاقة أهلها .. لكنها فوق هذا تتمتع بالأخلاق النبيلة .. والالتزام الديني المفقود في أيامنا هذه .. علي العموم يا بابا “الحلو ما يكملش” ..

بعد أيام دق جرس التليفون في دكان عم عبده البقال المجاور لشقتها بالمساكن .. الو .. ألو .. من فضلك أكلم الآنسة راندا.

علي الفور ناداها عم عبده .. قفزت درجات السلم واحدة تلو الأخرى بسرعة .. لقد أتي الفرج .. ستركب أتوبيس الشركة صباحا ومساء .. أخيرا وافق والد زميلتها علي تعيينها محاسبة في أحد فروع محلات القطاع العام الكبرى بأحد المناطق الراقية .. فرحت راندا لقد تحقق الحلم .. والطموح .. المحل فخم جدا .. ويرتاده شخصيات من الطبقات البرجوازية ممن يسكنون الفيللات والشقق الفاخرة ..

استلمت عملها الجديد على الخزينة .. كانت تقف بجوار شباك المحل .. لتشاهد أولاد الذوات .. وهم يركبون المرسيدس ويرتدون أحدث صيحات الموضة .. لم تفكر في الخطأ أبدا .. ولكن كثرة المال الموجود أمامها في الخزينة أغراها علي ارتكاب الجريمة ..

جلست ذات يوم في مكتب مدير الفرع بالمحل بعد أن تمت ترقيتها إلي أمينة الخزينة الرئيسية بالمحل .. الفلوس أمامها تغرى عينيها .. أدارت الكرسي الفخم يمينا ويسارا ثم حدثت نفسها .. ولعب الشيطان برأسها .. ماذا يضر لو اختلست مبلغا كبيرا وأقامت فى شقة فاخرة؟

تخمرت الفكرة في رأسها واستمهلت نفسها لكي تدبر لها .. فهي ليست الوحيدة المسئولة عن الأموال الموجودة بالخزينة أخيرا تمكن الشيطان من عقلها .. وقامت باختلاس مبلغ 43 ألف جنيه من خزينة المحل .. وأرسلت مفتاح الخزينة مع شقيقها في اليوم التالي لمدير المحل .. لأنها دخلت المستشفي .. لإجراء جراحة عاجلة .. فزع زملاؤها عندما سمعوا بخبر مرضها .. وأسرعوا لزيارتها في المستشفي .. كانت عادية تماما .. وإمعانا في التنكر .. انتقلت إلي مستشفي أخري ..

فاتحها مدير الفرع بنقص في أموال الخزينة فأخبرته أنها معها إيصال بالمبلغ من مدير البنك لأنها وردته .. وفي اليوم التالي .. اكتشف المسئولون بالبنك عدم توريد المبلغ واتضحت اللعبة ..

لقد اختلست راندا المبلغ لكي تحقق طموحها القديم وتصبح مثل أولاد الذوات .. بدأت تحقيقات النيابة .. أنكرت اختلاسها المبلغ لكن زملاؤها شهدوا عليها .. وتم حبسها 15 يوما علي ذمة التحقيق .. تركت العمل وانتظرت حكم القضاء .. تداولت القضية سنوات في المحاكم .. وكانت تأمل في البراءة .. لقد أنكرت في التحقيق صلتها بالسرقة .. وأنها كانت مريضة بالمستشفي ..

وحان موعد جلسة القضاء في محكمة الجنايات .. دخلت المتهمة قفص الاتهام وهي واثقة في البراءة كما أكد لها محاميها .. لكن عدالة السماء كانت أسرع .. وقفت تبكي بشدة وتنادي بأعلى صوتها أنا بريئة .. وبعد المداولة .. حكمت عليها المحكمة بثلاث سنوات مع الشغل والنفاذ .. صمتت لحظة بعد سماع الحكم .. ثم قالت بصوت متهدج المساكن الشعبية أحسن من الفيللا الفاخرة! .. وخرجت من القفص مكبلة بالقيد الحديدي إلى سجن النساء ..

بواسطة
جمال قنديل

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى