
موائد الرحمن في مصر
موائد الرحمن
عندما كنت طفلة صغيرة كنت على دراية تامة بطقس إقامة موائد الرحمن في شهر رمضان الكريم، ولكني كنت أظن أن الغرض من إقامة موائد الرحمن هو إطعام الفقراء والمساكين فقط، وأتذكر جيدًا أن والدتي أخبرتني أن موائد الرحمن للكل، ولا تقتصر على الفقراء والمساكين.
ولم يأت اسم “مائدة الرحمن” من فراغ، وهناك بالطبع قصة وراء هذه التسمية. ومن رأيي، أن هذا الطقس ليس دينيًا فحسب، ولكنه طقس اجتماعي وإنساني وإقتصادي.
ويرجع هذا الطقس الرائع من كل الأوجه إلى عصر النبي ﷺ، بالرغم من أن موائد الرحمن لم تُذكر في القرآن أو السنة النبوية الشريفة.
وبالنسبة للتاريخ المصري، فإن موائد الرحمن بدأت من عهد أحمد بن طولون، مرورًا بعهد المعز لدين الله الفاطمي، وعصر المماليك، وعصر الملك فاروق، وحتى وقتنا هذا.
وفي العصر الحديث، تُقام موائد الرحمن في مناطق شهيرة في القاهرة والمحافظات الأخرى. وهذا الطقس ليس إسلاميًا فقط، ولكنه أصبح فيما بعد طقسًا قبطيًا أيضًا، حيث يجتمع المسلمون والمسيحيون على نفس المائدة.
سبب تسمية موائد الرحمن
أما عن مصطلح “مائدة الرحمن”، فقد ظهر بكثرة في عهد شيخ الإسلام الليث بن سعد بن عبد الرحمن، حيث كان فقيهًا من الأثرياء، لا يأكل سوى الفول في شهر رمضان، ولكنه حرص على تقديم أشهى أنواع الأطعمة المختلفة للصائمين خلال مائدة يقيمها خلال الشهر الكريم. وكان مُحبًا لعمل الخير، وكان يساعد الفقراء والمساكين، ومن هنا جاء المسمى الحقيقي لموائد الرحمن.
أهمية موائد الرحمن
لا شك أن طقس إقامة موائد الرحمن طقس ديني، وذلك لعظم أجر إفطار الصائمين في شهر رمضان الكريم، خصوصًا من الفقراء والمساكين، ولكنه أيضا طقس اجتماعي وإنساني، حيث يجتمع المسلمون ليفطروا جميعًا على مائدة واحدة، مما يقرب الناس من بعضهم البعض، ويزيد من أواصر المحبة والود والصداقة بين الناس.
وهو أيضا طقس اقتصادي، حيث يتمكن الصائمون غير القادرين ماديًا من الإفطار وسد جوعهم وعطشهم طوال نهار شهر رمضان الطويل.
ضيوف موائد الرحمن
وكما أخبرتني أمي، فإن موائد الرحمن لا تقتصر على الفقراء والمساكين فقط، ولكنها تشمل عابري السبيل، أو من لا يسعفه الطريق في الوصول إلى بيته بسبب العمل أو ما شابه ذلك.
وفي بعض الأحيان يسمح القائمون على موائد الرحمن بدعوة الأغنياء والقادرين ماديًا للإفطار مع الفقراء والمساكين. ويعتمد الأمر على الواهبين أو القائمين على موائد الرحمن، فإذا أصروا على دعوة الفقراء والمحتاجين فقط، فلا يجوز للأغنياء والقادرين ماديًا أن يجلسوا على هذه الموائد. ويُفضل أن يترك الأغنياء والقادرين ماديًا مقاعدهم للفقراء والمساكين؛ لأنهم كثيرين وبحاجة للطعام والشراب.
بدايات موائد الرحمن
كانت بدايات ظهور موائد الرحمن في عصر رسول الله محمد ﷺ، حين قدم إليه وفد من الطائف، وكان رسول الله ﷺ في المدينة، واعتنقوا الإسلام في ذلك الوقت واستقروا في المدينة لفترة من الزمن، فكان رسول الله ﷺ يرسل إليهم الإفطار والسحور مع بلال بن رباح.
وبعدها اقتدى الخلفاء الراشدون بالرسول ﷺ، وقام سيدنا عمر بن الخطاب بإعداد دار للضيافة يُفطر فيها الصائمون، لتظهر بعد ذلك فكرة موائد الرحمن، حيث أقامها أحمد بن طولون أول مرة عام 880م.
أول مائدة رحمن في مصر
أقام أحمد بن طولون عام 880م أول مائدة رحمن في مصر في السنة الرابعة لولايته، وأخبر الجميع آنذاك بأن تلك المائدة سوف تستمر طوال أيام شهر رمضان الكريم، ولكنها اختفت بعد مرور فترة من الزمن.
موائد الرحمن في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي
وبعد اختفاء موائد الرحمن لفترة من الزمن، ظهرت مرة أخري في عهد الخليفة المعز لدين الله الفاطمي، حيث أقام مائدة في شهر رمضان، يُفطر عليها أهل جامع عمرو بن العاص، وكان الخليفة المعز لدين الله الفاطمي يُخرج من قصره 1100 قدر من جميع أنواع الطعام لتوزيعها على الفقراء، وسُميت في ذلك الوقت “دار الفطرة”، ووصل بعضها إلي 175 متر، ولكن بعد ذلك بدأ الأمر يقل مرة أخرى في عصر المماليك والعثمانيين بسبب الحروب.
موائد الرحمن في عهد المماليك
استمرت إقامة موائد الرحمن في عهد المماليك، وخصص بعض سلاطينهم أملاكًا للإنفاق على هذه الموائد، وكان منهم السلطان حسن بن قلاوون، الذي أنشأ وقفًا لشراء اللحوم والخضر والأرز وغيرها من مستلزمات الطهي لإعداد الطعام للفقراء طوال الشهر.
كان الحكام يهتمون بإقامة موائد الرحمن في ساحات قصورهم وفي الأماكن العامة، حتى وإن كان حجم المائدة وعدد المترددين عليها من الصائمين يتباين من فترة إلى أخرى.
موائد الرحمن في عصر الملك فاروق
اهتم الملك فاروق بإحياء موائد الرحمن، فأقام مائدة إفطار في الفناء الداخلي لقصر عابدين، وطلب من المحافظين إقامة موائد الرحمن في عدد من المراكز التابعة لكل مديرية.
وكانت تُقام سرادقات في مراكز إمبابة والجيزة والحوامدية والبدرشين والصف والعياط، ويتم تلاوة القرآن الكريم بها قبل أذان المغرب، يعقبها تقديم “موائد ملكية” لإطعام الفقراء.
أشهر موائد الرحمن في العصر الحديث
من أشهر موائد الرحمن في العصر الحديث، تلك الموائد الموجودة في مساجد الأزهر والفتح ومصطفي محمود في القاهرة، ومسجد السيد البدوي في طنطا، ومسجد عبد الرحيم القناوي في قنا.
وفي بعض الأحيان يقوم المنظمون لهذه الموائد بإرسال وجبات الطعام إلى منازل كبار السن، ومن لا تسمح ظروفهم بالحضور، وهي العادة التي انتشرت بشكل كبير في فترة حظر إقامة هذه الموائد خلال جائحة كورونا.
ونجد أيضا في كثير من الشوارع وعند إشارات المرور في المدن وفي الطرق التي تربط بين القرى والمدن، شبابًا يوزعون أكوابًا من العصير وأكياسًا من التمر وزجاجات المياه على المارة وراكبي السيارات في وقت الإفطار.
أول مائدة رحمن قبطية
كانت أول مائدة رحمن قبطية في عام 1969، وهي المائدة التي نظمها القمص صليب متى ساويرس، راعي كنيسة مار جرجس بميدان الأفضل بحي شبرا، وتردد عليها المسلمون والأقباط على حد سواء.
موائد الرحمن من أجمل مظاهر شهر رمضان الكريم، ولا نستطيع أن نتخيل شهر رمضان دون موائد الرحمن. ولدي إيمان راسخ بأن هذا الطقس سيستمر حتى يوم الدين، فبالرغم من عدم ذكر هذا الطقس في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، إلا أن هذا الطقس يطبق تعاليم الدين بإطعام الصائمين في شهر رمضان، خصوصًا الفقراء والمساكين.
وهذا الطقس ليس بدعة، حيث بدأ من عهد النبي محمد ﷺ، وبدأ في مصر من عهد أحمد بن طولون واستمر على مر الزمان وحتى يومنا هذا.



