العلاقات الأسريةتربية الأطفال

السائح

السائح …

عندما أتحدث عن السائح، لا أقصد السائح الأجنبي القادم من بلاد أجنبية ليزور أرض الوطن، ولكني أقصد السائح الذي يعيش في نفس المنزل مع أسرته، ولكنه يتصرف وكأنه غريب عنهم، ولا يهتم بشؤونهم؛ لأنها لا تعنيه، ولا يشاركهم همومهم وأحزانهم وقضاياهم، وكأنه لا يفهم ما الذي يجري من حوله، وكأنهم يتحدثون لغة لا يفهمها ولم يسمعها من قبل.

يجلس السائح بين أفراد أسرته بينما هم يتحدثون عن ضرورة ذهاب أحد أفراد الأسرة إلي الطبيب، ويتحدثون أيضا عن الأمور المالية المتعلقة بثمن زيارة الطبيب، وثمن العلاج، والمواصلات ذهابا وإيابا إلى عيادة الطبيب البعيدة، وقد يستبعدوا فكرة الذهاب إلي الطبيب تماما، ويفكروا في الذهاب إلي المستشفى أو المستوصف الطبي، والجميع يتحدث ويتناقش بينما يلتزم السائح الصمت. وكأنهم يتحدثون الفرنسية بينما يتحدث هو اللغة الألمانية.

ولكن هل يعرف أحد لماذا يتصرف السائح هكذا؟

يتصرف السائح هكذا؛ لأنه لا يريد أن يشارك في شيء أو يكون له دور يتطلب منه مساعدة مادية أو معنوية، فهو لا يريد الذهاب مع المريض إلى أي مكان ولا يريد أن يدفع زيارة الطبيب وثمن العلاج. فماله لنفسه فقط؛ لأنه سائح .. والسائح يذهب إلى البلد الأجنبية ليمتع نفسه.

وبالطبع يجنّ كل من حوله، ويتسألون فيما بينهم:” لماذا تعيش بيننا وأنت ليس لك دور في شيء؟ المعيشة تعني مشاركة!”

وعندما تقع مشاجرة أو خلاف بين أفراد الأسرة، يجلس السائح ولا يتفوه بكلمة، وكأنه أطرش وأخرس، وكأن ما يحدث لا يعنيه في شيء، ولن يتحرك حتى ولو وقعت جريمة أمامه.

إنه شخص لا يحب النكد ويعشق الهدوء والسكينة والراحة. فليذهب الجميع إلى الجحيم؛ لأن أهم شيء بالنسبة له هو راحة باله.

وفي مرة من المرات صرخ أحدهم في وجهه وقال له: “ألا ترى ما يجري حولك؟ ألن تفعل شيئا لتنهي هذا الشجار؟” فرد السائح ببرود شديد:” لم يطلب مني أحد المساعدة.”

وفي مرات كثيرة يحتاج المنزل إلى بعض من الإصلاحات، فيهرب السائح خارج المنزل ليجلس علي المقاهي والكافيتريات، حتي لا يتواجد في المنزل مع الفنيين ويتعب نفسه بالوقوف معهم لساعات طويلة.

ويضطر أفراد الأسرة لفعل كل شيء بأنفسهم دون الحاجة للسائح. وعندما يعود إلى المنزل، يتجنب الحديث معهم، وكأن شيئا لم يكن. ولكن عندما يفيض الكيل بأفراد الأسرة يتشاجرون معه ويتهمونه باللامبالاة والتهرب من تحمل المسؤوليات.

ومع ذلك لا يتأثر بكلامهم ولا يغير من موقفه، ويظل سائحا لا يفقه شيئاً، ولا يفهم ما يدور حوله، وبالتالي لا يأخذ خطوة لعمل شيء ولا يساعد الآخرين. والمشكلة أن هؤلاء الآخرين هم أهله وليسوا غرباء عنه – يشاركهم المأكل والمشرب والمسكن، لذا وجب عليه التصرف وفعل أي شيء من أجلهم.

إنه سائح أناني فالسائح العادي يدفع ثمن إقامته ولكن هذا السائح لا يدفع أي شيء ويحتفظ بنقوده لنفسه ليصرفها على متعه واحتياجاته الشخصية مما جعل أفراد الأسرة يفكرون جديا في طرده من المنزل لأنه بلا فائدة وحمل ثقيل عليهم. ولكن إلي أين يذهب؟ فليس له مأوي أو مكان أخر يذهب إليه وبعد تفكير طويل قرروا أن يتحملوه ويقبلوا إقامته معهم من منطلق الرحمة والإنسانية وصلة القرابة الشديدة بينه وبينهم ولكن أحيانا ما يفعله يدفعهم للجنون ويصرخوا في وجهه قائلين:” أنت لا تفكر إلا في نفسك فقط وكأنك تعيش في هذه الحياة وحدك. فكر في الأخرين لأنهم يقاسموك حياتك ولا أحد يستطيع الحياة دون الأخرين!”

تجد هذا السائح في الكثير من البيوت المصرية .. وأتذكر جيداً حديثي مع سائق تاكسي يشكو من شح الرجولة عند الكثير من الرجال هذه الأيام قائلا: “الآن، يا سيدتي، تجدين الشاب يسهر طوال الليل، وينام بالنهار، تاركا أخته تقف في الطابور أمام فرن الخبز، بدلاً من أن يقف مكانها ويحميها من الوقوف في الطابور ومن المعاناة في الزحام الشديد.”

وأنا لست ضد وقوف الفتاة في الطوابير أمام الأفران والمحلات، ولكني ضد عدم تعاون الرجل مع المرأة وتركه كل المسؤوليات والالتزامات على عاتقها لتتحملها وحدها وتقوم بها جميعا.

فهذا الأخ النائم الذي لا يفعل شيئاً في حياته هو السائح الذي أقصده، وتجد هذا الشاب يسهر بالليل ليلعب الألعاب الإلكترونية أو يشاهد أفلام الثقافة الجنسية، أو يتصفح المواقع الإباحية، أو يتحدث مع الفتيات المنحلات عن الجنس والكلام الذي يندى له الجبين، ويتبادلان الصور العارية المُخجلة.

وبعد أن يقضي ليله ويستهلك طاقته في كل الأنشطة غير المحترمة والتي لا تفيده ولا تفيد من حوله في شيء، بل ينام لساعات طويلة ولا يساعد أمه ولا أباه ولا إخوته في شيء.

وهناك أيضا الزوج السائح الذي يترك زوجته تعمل داخل البيت وخارجه ولا يساعدها في شيء وكأنه دخل هذه الزيجة بمجهوده الشخصي ولسان حاله يقول لها: “لقد أنجبتِ مني أطفالا، فلا تتوقعي مني أكثر من ذلك. احمدي ربنا أنكِ تزوجتي وأنجبتي الأطفال.” وكأن وظيفة الرجل الوحيدة هي إنجاب الأطفال، وكأنه ليس إنسانا، عليه القيام بالكثير من الواجبات.

وهذا الموقف الغريب يناقض أساسيات الزواج القائم على المشاركة، فبدون بند المشاركة ينهار الزواج؛ لأن الزوجة إنسانة بحاجة لمن يقاسمها الأعباء والمسؤوليات، خصوصا بعد إنجاب الأطفال؛ لأن تربية الأطفال ليست سهلة خصوصا في زمن التكنولوجيا الحديثة والثورة الرقمية.

إذا كان في بيتنا سائحا، فما الذي يجب علينا فعله تجاهه؟

للأسف السائح هو نتاج تربية خاطئة منذ الطفولة فالأم والأب ساهما في تنشئة الطفل على عدم تحمل المسؤولية، وقاما بتدليله وإفساده منذ البداية، فكبر الطفل وتعود على حياة الرفاهية والدعة والراحة .. وأصبح سائحا.

وعندما يكبر الطفل يكبر الوالدان في السن، ويصلا لمرحلة لا يستطيع فيها أيا منهما القيام بكل شيء لوحده، ويجدا أنفسهما بحاجة إلي المساعدة، ويتوقعا هذه المساعدة من السائح الذي تعود على عدم المشاركة والمساعدة والاعتماد على الأخرين للقيام بكل شيء بالنيابة عنه.

وهنا يتذمر الوالدان ويشتكيا السائح للجميع، ولكن على الوالدين أن يعلما جيدا أنه خطأهما منذ البداية، وللأسف عليهما تحمل تبعات تربيتهما الخاطئة.

أعتقد أن على الجميع التحدث إلى السائح وإخباره أن عليه أن يتغير ويتخلى عن أسلوب حياته الأناني، وعليه أن يدرك جيدا أن الحياة ما هي إلا مشاركة، وعلى كل فرد القيام بدوره، ولا يمكن لفرد واحد أن يقوم بكل شيء بالنيابة عن الأخرين.

وبالطبع لن يستجيب السائح من أول مرة، لذا وجب الصبر عليه وعلى تصرفاته، وكثرة المناقشة والحديث معه ستجعله يستجيب، حتى ولو تدريجيا، ولا بد من تشجيعه حتى ولو قام بفعل بسيط .. فالتشجيع سيحمسه لفعل الكثير من الإنجازات، ومع مرور الوقت سيتحول لإنسان “طبيعي” يستيقظ من نومه استعدادا للقيام بأنشطته اليومية التي لن يقوم بها شخص أخر غيره.

بواسطة
مي متولي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى