
يرجع نسب النبي زكريا عليه السلام إلى آل عمران، وهو من آخر ثلاثة أنبياء أرسلهم الله تعالى إلى بني إسرائيل. فقد رزقت امرأة عمران بنتين، الأولى هي زوجة زكريا وأم يحيى عليه السلام، والثانية هي مريم أم عيسى عليه السلام.
كانت بعثة زكريا في وقت انتشر فيه الفساد والفجور في ظل حكم ملوك من الجبابرة الذين كانوا يضطهدون ويقتلون الأنبياء والصالحين. وعانى زكريا كثيرا في سبيل نشر رسالته في هذه الأجواء الصعبة، وتحمل بصبر جميل وواصل جهاده من أجل هداية قومه.
في ذلك الحين كانت امرأة عمران قد أنجبت مريم، وكان زوجها قد توفي فكفلها النبي زكريا. وكان كلما زارها يجد عندها رزقا وليس أي رزق. كان يجد عندها فاكهة الشتاء في فصل الصيف، ويجد فاكهة الصيف في فصل الشتاء. وكان كلما سألها عن المصدر تقول: ﴿هو من عند الله. إن الله يرزق من يشاء بغير حساب﴾ “آل عمران: ٣٧”.
تلك الكرامات التي اختص بها الله تعالى مريم أحيت الأمل في نفس زكريا، وفكر في قدرة الله تعالى، فتوجه إليه بالدعاء بلسان صادق وقلب سليم طالبا أن يرزقه غلاما يرثه في علمه ويستكمل رسالة النبوة في قومه. واستجاب الله تعالى لدعائه وجاءته الملائكة بالبشرى وهو قائم يصلي في المحراب: ﴿يا زكريا أنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا﴾.
تعجب زكريا: ﴿قال ربي أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرٱتي عاقر﴾ “آل عمران: ٤٠”. لقد تعجب زكريا عندما استجاب الله لدعائه، و بدأ بنفسه فقال أنه كبر في السن ثم بعدها قال أن امرأته عاقر. وكما يرى فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي أن قول النبي زكريا عليه السلام كان يحمل في طياته أدب النبوة، فالرجل قد يكون قادرا على الإنجاب في سن متأخرة، ولكنه لو اكتفى بذكر أن امرأته عاقر فسوف يكون هذا الأمر مؤلما لها؛ لأنه سوف يرى أنه قادر على الإنجاب بينما هي عاجزة، ولذلك بدأ بنفسه. وقال: بلغني الكبر ثم بعدها قال: وامرأتي عاقر. فنعم أخلاق الأنبياء والصالحين.
ثم جاءه الرد: إن الله يفعل ما يشاء. وطلب زكريا علامة على تحقق الأمر، ليس عن عدم ثقة في قدرة الله تعالى، وإنما لتقديم الشكر على تلك الهبة العظيمة. فأخبره الله أن العلامة هي أنه سوف يجد نفسه عاجزا عن الكلام وسوف يتحدث بالإشارة، وحين يحدث له ذلك عليه أن يدرك إن تلك هي الآية على تحقق مطلبه.
كما أنعم الله عليه بتسمية المولود، فذكر أن اسمه يحيى، وهو إسم لم يكن معروفا من قبل. وهكذا خرج زكريا من المحراب وهو مبتهج بهذه البشرى العظيمة.
تحققت البشرى، ورزق زكريا بغلام صالح. فقد كان يحيى عابدا ومتعمقا في التوراة وعاملا بأحكامها، وكان بارا بوالديه. وكان له نصيب من اسمه الذي اختاره له الله عز وجل، فقد اختار له إسم يحيى، ومنحه عمرا أطول من الأعمار المتعارف عليها بين البشر، فقتله جنود الملك الظالم هيرودس حاكم فلسطين، فمات شهيدا ليظل حيا عند الله تعالى إلى وقت قيام الساعة.
وقد اختلف العلماء في وفاة يحيى هل هي وفاة طبيعية أم أنه فعلا قد قتل، ولكن الطبري وابن كثير ذكرا أنه كان ينهى عن الزواج من المحارم ويقال إن هيرودس كان يريد الزواج من ابنة أخيه، فلما نهاه يحيى عن ذلك، أراد أن ينتقم منه فأرسل له جنودا فقتلوه، وهو قائم يتعبد لله.
بعد استشهاد يحيى عليه السلام، غادر زكريا قومه و سار على غير هدى حتى وجد بستانا في بيت المقدس، واختبأ في شجرة كبيرة ولكن إبليس اللعين أخبر القوم فجاءوا وانهالوا بفئوسهم على الشجرة فقتلوا زكريا عليه السلام.
الدروس المستفادة من قصة النبي زكريا عليه السلام:
– يقول الرسول محمد (ﷺ): “من فتح له منكم باب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة، وما سئل الله شيئا يعطى أحب إليه من أن يسأل العافية، إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء”. فالدعاء نوع من العبادة، وهو وسيلة لتفريج الكربات وتيسير الأمور، كما أنه وسيلة لكسب رضا الله؛ لأنه دليل على التوكل عليه. والله قادر على تحقيق كل ما يتمناه العبد فهو في قصتنا هذه قد منح زكريا عليه السلام الغلام الذي تمناه رغم كبر سنه ورغم أن زوجته لم تكن تنجب.
– لنا في أخلاق النبي زكريا نموذجاً يحتذى، فعندما تعجب من البشرى بالغلام واستغرب أن يحدث ذلك لم يرجع سبب دهشته إلى زوجته ويجرح شعورها أو يؤلمها ويحملها مسئولية عدم الانجاب وحدها، وإنما بدأ بنفسه، ولم يكن يشك في قدرة الله، وإنما كان يفكر طبقا لقوانين البشر وحساباتهم.
– على الإنسان أن يسعى ويجتهد من أجل الرزق، مع الإيمان والاقتناع أن الرزق بيد الله. فهو يبسط الرزق لمن يشاء ويمنعه عمن يشاء. وله حكمة في ذلك. وعندما يؤمن الإنسان بذلك، ويسعى في طلب الرزق ويثق أن الرزق مكتوب مثل الأجل، تهدأ نفسه ويغمره الرضا، وحينئذ يشعر بقيمة ما لديه ولا ينظر لما في أيدي الآخرين.
ولنا في قصص الأنبياء عبرة …