
كانت أمي تحلم بدخولي كلية الطب، وكان هذا الحلم يستهويني منذ طفولتي، ولكني خيبت أمال أمي عندما قررت الإلتحاق بالقسم الأدبي في المرحلة الثانوية؛ لأني عزمت علي دخول كلية الأداب قسم اللغة الإنجليزية، لعشقي للغة الإنجليزية وكل ما يتعلق بها.
لم أندم يوما ما علي إلتحاقي بكلية الأداب، ولكني حتي يومنا هذا أكن كل الإحترام والتقدير لمهنة الطب؛ لأنها مهنة الرحمة. ولا نستثني الطبيبة المصرية هيلانة سيداروس من تصنيفها أحد ملائكة الرحمة الذين عملوا بجد في مهنة الرحمة.
لم تكن الطبيبة هيلانة سيداروس أول طبيبة مصرية فحسب، ولكنها كانت أيضا من أوائل المصريات الذين سافروا إلي إنجلترا لتلقي العلم. والعجيب أنها سافرت هناك لدراسة الرياضيات، ولكن شاء القدر أن تدرس الطب هناك، لتعود إلي مصر كأول طبيبة مصرية، وتبدأ رحلتها مع مهنة الطب، التي إستمرت لسنوات، حتي قررت التقاعد، والتفرغ للعمل الإجتماعي الذي كان لا يقل أهمية عن عملها كطبيبة محترفة.
عندما سافرت هيلانة سيداروس إلي إنجلترا، كان هدفها هو دراسة الرياضيات، ولكن فور علمها أن الدراسة ستقتصر علي ما يعادل الدراسة الثانوية في مصر، وفي نهاية الدراسة ستحصل علي خطاب يحدد تخصصها، غضبت هيلانة وقررت العودة إلي مصر. وتواصلت مع المستشار الثقافي أو الملحق الثقافي بالسفارة المصرية بلندن، ليساعدها في العودة إلي مصر. ولكنه عرض عليها دراسة الطب بدلا من الرياضيات، فوافقت هيلانة وقبلت التحدي؛ لأن دراسة الطب ليست سهلة.
وكان قد تأسست في مصر في ذلك الوقت جمعية كيتشنر التذكارية بهدف إقامة مستشفي للمرضي من النساء فقط، علي أن تتولي إدارتها طبيبات مصريات فقط، ولهذا تقرر تدريب فريق من الطالبات المصريات بإنجلترا، وقد أُختيرت هيلانة واحدة من أعضاء هذا الفريق لتبدأ رحلة الطبيبة هيلانة مع مهنة الطب في مصر.
عادت هيلانة إلي مصر عام 1930، ومعها شهادة الطب والتوليد من الكلية الملكية البريطانية، وإلتحقت بالعمل في مستشفي كيتشنر بالقاهرة. وفي ذلك الوقت كانت الطبيبة المقيمة بالمستشفي إنجليزية، وبعد أن عادت إلي وطنها، شغلت د. هيلانة مكانها بكفاءة. وتمكنت دكتور هيلانة بجهودها الذاتية من فتح عيادة في باب اللوق بالقاهرة، وفي نفس الوقت كانت تقوم بعمليات الجراحة والتوليد بالمستشفي القبطي بالقاهرة بناء علي طلب الدكتور نجيب باشا محفوظ – رائد علم أمراض النساء والتوليد بمصر. كان من بين ألاف الأطفال الذين ولدوا علي يديها الدكتور طارق علي حسن نجل صديقتها الرائدة في علم الكيمياء الدكتورة “زينب كامل حسن”.
في كثير من الأحيان كان يتم إستدعائها في منتصف الليل لمساعدة سيدة علي وشك الولادة، فكانت تقود سيارتها الخاصة بنفسها وسط دهشة المارة، وتذهب لمقر إقامة السيدة للوقوف بجانبها. لذلك كانت تري الطب مهنة صعبة تحتاج إلي تضحيات كثيرة، وأنه بدون الرغبة الشديدة في دراسة الطب يصعُب الإستمرار فيها.
بعد أن تجاوزت السبعين من عمرها، رأت أنه ليس من صالح مرضاها أن تستمر في العمل، إذ أن الشيخوخة كانت قد أدركتها. فأستقالت من عملها، وإنضمت إلي الجمعية الخيرية القبطية للعمل الإجتماعي. وفي فترة عملها بالجمعية الخيرية القبطية، إهتمت بترجمة العديد من الكتب للأطفال ومشاهير الرجال، وكانت في الفترة الأخيرة من حياتها تعيش في شيخوخة صالحة بعد أن خدمت الوطن بصفة خاصة والإنسانية بصفة عامة بأمانة كاملة.
تحية صادقة من القلب للطبيبة المصرية الراحلة هيلانة سيداروس، التي رحلت عن عالمنا عام 1998، لما قدمته من عطاء وتضحية من أجل مهنة الطب التي تحتاج اليوم لآلاف النساء والرجال من أمثال الطبيبة هيلانة، التي أحبت المهنة حبا صادقا، ولم يكن هدفها جمع المال والتكسب علي حساب ألام مرضاها.



