أصول الروشنة

أنا وجدتي

كانت جدتي تعيش في بيت عائلي كبير تتناوب عليه أجيال تلو أجيال، بداية بصاحب البيت “حما جدتي” وزوجته “حماتها”، وابنائهم التي تزوجت أكبرهم، ثم أبناء الأبناء، وبعد حين من الزمن يتوفي الجد الأكبر، ثم الجدة، وتصبح جدتي صاحبة البيت الكبير، فمن احترام الابن الاكبر كاحترام الاب وزوجته، ينالها نفس احترامه بالتبعية.

ويكبر الأبناء، ومنهم أمي، ويأتي الأحفاد، ومنهم أنا، لنتربي مع جدة حنونة عطوفة صابرة مثابرة حكيمة في كثير من الأحيان، وتأتي لنا مع كل موقف بمثل شعبي لنتخذه قاعدة حياتية تتخلل قلوبنا وعقولنا، ونعمل بها معتقدين أنها جالبة للخير، طارده للنحس، لتمر الأيام والسنون، وتمضي جدتي إلي بارئها، ويبقي أثرها الجميل، ونكتشف أن هناك علم صيني يسمي “الفونج شوي”، وعلاقته بطاقة الإنسان السلبية والايجابية.

فاذا بي أجد كلام جدتي كله هو هذا العلم. ياالله! هل كانت هذه المرأة عالمة، قارئة، مثقفة إلي هذا الحد، علي الرغم من أميتها وخروجها من المدارس مبكرا، وتزويجها في سن التاسعة حتي قبل سن البلوغ!

كيف هذا!

أمر يجعلني أقف كثيراً أمام هذه العبقرية الزمنية التلقائية، “جدتي”. وما كانت الأمثال الشعبية لجدتي إلا أقوال وأفعال ناتجة عن ممارستها الحياتية وتنم عن حياة عريضة.

ولازلت اتذكر كلام جدتي وقصصها الليلية كي ننام نوما هادئاً. كانت أيام سرور وأفراح لكثرة الأبناء، فيتزوج الواحد تلو الآخر، فاليوم زفاف وبعده خطبة وبعده قراءة فاتحة فلان أو فلانة …

هكذا كانت أيامنا الحلوة وليالينا الجميلة …

مجلة الجميلات والشرق

كنت اسمع جدتي تقول “عتاب الندل اجتنابه” لتعلمنا أنه لافائدة من هذا العتاب.

وأيضا “داووا سفهاءكم بالسكوت”، فالجدة أم خبيرة، ووجودها في حياة أحفادها كنز له قيمة كبيرة، يجب أن يغتنمها الأحفاد قبل فوات الأوان، فهي بركان من الخبرات والتجارب، كما أن لكلامها وقصصها طعم آخر، غير كلام باقي البشر، وكنت أري أمي أيضا تحب أبنائي وباقي أحفادها حبا جما، وكنت اشك أنها تحبهم اكثر منا، فكنت أجهل شعور الجدات حتي جربته، وجاءتني صغيرتي الأولى، فوجدتها تأخذ لباب قلبي، وتأمرني فأطيعها، واتقبل شقاوتها بكل صدر رحب.

نعم أنه شعور جميل .. شعور يتجدد معه طاقتك ورسالتك.

نعود لجدتي وحكايات جدتي فكانت تنصحنا بعدم “فتح المقص وغلقه”؛ لأنه يجلب النكد، ومن طرائفها عندما نريد التخلص من ضيف ثقيل “نضع إبره في المقشة”، والغريب أن الضيف كان يستأذن علي الفور ويذهب.

وكانت تمنع “التبرع بالملابس القديمة إلا بعد غسلها”، وتحذرنا من أن يرتدي خواتمنا الشخصية غيرنا حتي لو للتجربة، وكانت اذا وجدت باحدنا علة، تقص ورقة علي شكل عروسة وتشكها بدبوس باسم كل من يعرفنا لنبرأ من الحسد، وكذلك تمسح المنزل بالملح لازالة العين والسلبيات.

وسكتت جدتي عن الكلام المباح …

بواسطة
منى حسن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى