
المرآة
تصعد يدها بالمنشفة إلى أعلى رأسها ثم تهبط بها إلى أسفله، فتأخذ بين ثناياها خصل شعرها السوداء المبتلّة بالماء. تجفف وتسّرح شعرها بتؤدة وإتقان.
ستلتقي به عند الخامسة مساءً في أحد مقاهي شارع الحمراء.
تطبق عقارب ساعة الحائط على الرقم ثلاثة.
ترتعش يداها الباردتان قليلاً وهي تخطط حواجبها بقلم الكحل الأسود. قليل من الكحل في محجر العين وبعض منه على الرموش.
تنظر في المرآة فترى إمرأة جميلة: عيناها غامضتان، خداها واسعتان، شفتاها بارزتان، وإبتسامتها تفتّر عن أسنان مرصوصة كحبات اللؤلؤ.
تترآى لها في المرآة قبضة يد تستحوذ على خصلات شعرها الأسود، وكأن تلك القبضة تمسك بالخصلات بكماشّة من حديد.
تظهر لها في المرآة وجوه أشخاص تكاد تعرفهم. كانت الوجوه تقترب وتبتعد فتظهر سيماهم ثم تختفي في زاوية المرآة. تلك الزواية هي هوة تشبه إلى حدّ ما هوة الكون المتشكلة في الفضاء، والتي تبتلع الكواكب والمجرّات فتسّحقها وتحيلها إلى فراغ. كانت الوجوه تمر أمامها بكل معالمها. فهذا وجه مثقل بالتجاعيد، وهذا وجه مفعم بالحيوية، وذاك وجه أخافها، ووجه آخر عرفته من إتساع عينيه وجحوظ نظرته. تلك النظرة القاسية التي كانت قد آلمتها لسنين. كل الوجوه مرّت بسرعة ومن ثم إختفت في هوة المرآة.
كان هو هناك أيضاً. كان قاسياً وحقوداً.
إرتعدت أوصالها.
كانت شفتاه تطبقان على بعضهما البعض وكأنها تنثر بعض كلمات كالجمّر تذروه الريح.
أخفت وجهها بيديها.
تدق الساعة أربعة دقات.
في المرآة لجّة زرقاء تتلاطم أمواجها على شاطىء لازاوردي حيث تطل بأشرعتها قوراب بيضاء تؤب من بعيد.
كم تتوق للذهاب في نزهة في إحدى هذه المراكب. تتوق للذهاب إلى المنارة التي تتوسط اللجّة على صخرة واسعة تتصدى لتعالج الامواج.
في المرآة يترآى لها حبيبها الجديد يمسك بالمجداف وينطلق نحو المنارة.
فوق الأمواج أيضاً يرتسم وجهه المكفهّر، بحنكه الواسع الغليظ. تلمع الأمواج تحت أشعة الشمس كحدّ سكين. وكأنها تسمع في أنين الموج عتاباً موصولاً. عتاباً غاضباً. عتاباً لا ينتهي.
تقف أمام المرآة بثوبها الزهري الجديد. إمراة يانعة، تضيء وجهها شبه إبتسامة. لكن العينان يكتنفهما الغموض وبعض الخوف.
في المرآة مقهى بأضواء خافتة، طاولات وكراسي وأشخاص يتكلمون بأصوات خفيضة، وزهرات وكؤوس وأقداح وفناجين.
تمدّ يدها لتأخذ كوب شراب، فتمسك بها اليد الغليظة ذات الأصابع الثخينة وذات الوبر الاسود الكثيف، وتأخذ الكأس منها وترميه بعيداً في هوة المرآة.
بها شيء من الخوف والإرتباك.
تنتعل الحذاء الأسود ذو الكعب العالي.
في المرآة لبؤة بنية اللون تربض على باب عرين في غابة من غابات الامازون.
ينسدل شعرها الاسود الطويل على كتفيها وترسم شفتيها بأحمر الشفاه.
في المرآة ضباب وبخار كثيف يتصعّد من بحيرة إستوائية.
الساعة المعلّقة على الحائط تدق الخامسة إلا الربع.
رعشة ثوب وطقطقة حذاء.