
في بيتنا زغاريد
نشاط غير عادي في المنزل.. جناح الاستقبال مفتوح على مصراعيه.. الخدم يروح ويجيء.. حركة مستمرة لا تهدأ ولاتكل. الصالون الكبير مفتوح. إنه لا يُفتح إلا لمناسبة مهمة أو لزيارة رسمية، لأن كل قطعة فيه تحمل قيمة مادية ومعنوية عالية. فهو مُذهب بذهب فينو لا مثيل له، ويضم لوحات فنية أصلية مُوقّعة، وسجاد تبريزي، وتماثيل وتحف نادرة من جميع أنحاء العالم. لقد كان أبي يهوى جمع التحف، وكان له صديق صاحب صالة مزادات، كلما أتته تحفة جديدة عرضها على أبي، الذي يأتي بها بدوره إلى منزلنا الواسع الجميل، فتزده جمالاً وفخامة. وللصالون باب كبير يؤدي إلى غرفة المكتب، وهي مخصصة للرسميات وأمور الكبار.
وتتكون غرفة المكتب من مكتب فخم يعود تاريخه إلى أسرة محمد على باشا، ومكتبة فنية محفورة بالزخارف والنقوش، وطقم مخملي وقور. وتضم الغرفة صور العائلة العريقة، فهذا جدي الأكبر، وجيهًا شامخًا، تعلو سترته العسكرية رتبه ونياشينه، وتلك جدتي بجواره، جميلة، أرستقراطية، هانم لقبًا وشكلاً. هذا بالإضافة إلى بورتريهات عائلية تُضفي على الغرفة طابعًا مميزًا. يلي ذلك غرفة السفرة التي طالما شهدت العزائم والولائم، حيث كنا نخرج الطقم الصيني الأصلي الشفاف، والكؤوس البلورية التشيكية، وعربة الشاي لتقديم شاي العصر الكامل على الطراز الإنجليزي مع تشكيلة متنوعة من أطباق الحلوى.
إذن، ماذا عن هذا النشاط غير العادي؟ لابد أننا نستقبل اليوم بعض الضيوف المهمين. نعم. أصدقاء قدامى لأمي ومعهم عريس لأختي الكبرى. عريس؟ الفكرة جميلة. خفق قلبي فرحًا. في بيتنا عريس.. أمر رائع.. إحساس لم أشعر به من قبل، كنا أنا وبقية شقيقاتي أطفالاً، أخذنا نجري ونضحك في طرقات المنزل. تُرى، ما شكل العريس؟ كيف نتعامل معه؟ هل سيعطينا حلوى؟ هل سيصطحبنا في نزهات مع أختنا؟ كنا نتهامس ونضحك في شغف. أمرتنا أمي ألا نغادر حجرتنا إلا إذا أذنت لنا وألا نسبب أي إزعاج وستكافئنا بالحلوى بعد انتهاء الزيارة.
جلسنا أنا وشقيقاتي نتخيل ما سيحدث، ثم نسترق السمع من خلف الباب ونفتحه قليلاً حتى إذا مر أحد أغلقنا الباب بسرعة وضحكنا في خفية. ولمَحْت أختي الكبيرة وقد مرت أمامي… كم بدت جميلة ورشيقة، ترتدي فستانًا رقيقًا، وقد صففت شعرها بأناقة وارتدت الكعب العالي. رأيتها عروسة بمعنى الكلمة، تسعد العين وتبهج القلب، في نظرتها خجل بريء وفي يديها صينية ترتعش بين أناملها، وبجوارها أمي تشجعها وتنصحها: ابتسمي.. ارفعي رأسك.. قدمي لفُلانة أولاً.. لا تتلعثمي.. افعلي.. لا تفعلي… ثم تقدمَتها إلى غرفة الصالون وأعلنت بكل فخر: ابنتي… وعَلَت في الغرفة صيحات: “بسم الله ما شاء الله”، “اللهم صلي على النبي”، “والله كبرتي وبقيتي عروسة”.
وخفق قلبي أنا وشقيقاتي، وأسندنا ظهورنا إلى الباب وكأننا ننتظر نتيجة الامتحان وقلوبنا تدق بسرعة. تُرى ماذا قالوا؟ ماذا فعلوا؟ متى حفل الزفاف؟ لا، الخطوبة أولاً. ماذا سنرتدي؟ لابد من فساتين جديدة. أنا سأصفف شعري عند المصفف.. وأنا أيضًا.. وأنا.. وسأرتدي الكعب العالي، وأنا.. وأنا. هل ماما ستوافق؟ هل ستضع أختي أحمر شفاه؟ بالتأكيد طبعًا.. كل العرائس تضعن أحمر شفاه.. وفجأة.. انطلقت الزغاريد… الله.. ما أحلاها.. لأول مرة أسمع زغاريد في بيتنا.. كنا نسمعها لدى الجيران أو في الأفراح. إن وجودها في منزلنا له رهبة خاصة. يا له من إحساس جميل.. وخرجت أختي من الصالون وأسرعنا نلتف حولها.. مبروك.. مبروك.. احكي لنا.. فتضحك في خجل، ماذا أحكي؟ لما يغادروا ماما ستحكي كل شيء.
وبعد أن غادر الضيوف لا أذكر ماذا حكوا لنا ولكن كل ما أذكره هو أطباق الحلوى التي وعدتنا بها أمي وكانت عند وعدها.
الكبار يتحدثون ويضحكون، والصغار يأكلون ويمرحون.