
قهوة مظبوط
"عن مقاهي القاهرة استنادا للفصل الأول من كتاب "ملامح القاهرة في ألف سنة" للكاتب الكبير جمال الغيطاني رحمه الله"
لم تعرف القهوة كمشروب قبل القرن الخامس عشر الميلادي، وقيل أن أول من اهتدى إليها هو أبوبكر بن عبد الله المشهور بالعيدروس، ووصل أبو بكر مصر عام ٩٠٥ هجرية، وأتى معه بمشروب القهوة الذي امتدحه وأوصى به جماعة الصوفية، غير أن كثيرا من المشايخ أفتوا بحُرمته أول الأمر حتى القرن العاشر الهجري، وكانت تُشرب في البيوت وفي الأماكن المخصصة لها والتي لم تكن تُعرف وقتها بعد بالمقاهي لأنها كانت تقدم المشروبات الأخرى المعروفة عدا الشاي الذي دخل مصر متأخرا في القرن التاسع عشر الميلادي..
وما وصلَنا من الوصف الدقيق لشكل وعدد المقاهي في القاهرة كانت على يد المستشرق الإنجليزي إدوارد وليم لين، في مطلع القرن التاسع عشر، وقد وصفها بأنها “غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية على شكل عقود، ويقوم على طول الواجهة عدا المدخل مصطبة من الحجر أو الآجر تفرش بالحصر”
قدمت بها المشروبات وعلى رأسها القهوة في “بكرج”، أشبه ما يكون شكلا بالدلة حاليا ثم تطورت إلى شكل الكنكة المعروفة.
اشتهرت المقاهي آنذاك بحكي السير مثل سيرة أبي زيد الهلالي وعنترة العبسي والظاهر بيبرس وقصة سيف ابن ذي يزن وألف ليلة وليلة وكانت تروى على نغمات الربابة والعود، حتى انتشر الراديو وحل محل الربابة والعود وتقلص رواة السير الشعبية.
اشتهرت مقاهي القاهرة في مطلع القرن العشرين بأنها ملتقى للفن والسياسة والأدب والشعر والموسيقى ..
فهذا مقهى كتاتيا في العتبة الخضراء يؤمه جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده والمحامي إبراهيم الهلباوي وسعد زغلول
وذاك مقهى “التجارة”
في شارع محمد علي، يؤمه الموسيقيون وعلى رأسهم أعضاء فرقة حسب الله الذي كون فرقة لإحياء الأفراح وقد كان من جوقة الخديو إسماعيل، وفي مقهى “الكتبخانة” يجلس حافظ إبراهيم، والشيخ عبد العزيز البشري ، والشيخ حسن الآلاتي صاحب نوادر “المضحكخانة”
ومقهى الفيشاوي ومقهى ريش وغيرهم الكثير الذي قصده كبار الفن والأدب، وعقدت فيه الندوات الأدبية حتى وقت قريب، وأشهرها ندوة نجيب محفوظ في مقهى ريش، بالإضافة للمقاهي المشهورة بأصحاب الحِرف والمهن المختلفة والتي يلجأ إليها طالبوها والعاملين بها.
انحسر دور المقاهي في النصف الثاني من القرن العشرين، ولم يبق إلا القليل منها يتقابل فيه بعض أهل الفن والأدب، حتى أصبح هذا نسيا منسيا.
لم تكن ابدا خلال هذا التاريخ المقهى إلا جزءا من تركيب المجتمع، وملاذا لكل طالب، ومكانا تلتقي فيه العقول والقلوب، ومسبارا للمجتمع المصري، ما تزال حتى الآن تشعر بالألفة إذا جلست إلى مقهاك العتيق المفضل، على كرسيه الخشبي، وطاولته المربعة الصغيرة، ستجد ريح مصر التي لم نعد نراها، إلا في حكايات السابقين.