
ماما عبلة الكحلاوي
عندما يرن في أذني اسم الدكتورة عبلة الكحلاوي، أتذكر على الفور السيدة الفاضلة الهادئة، ذات الملامح السمحة المريحة، والأسلوب المرن السهل البسيط في الدعوة الإسلامية، البعيد تمام البعد عن التشدد والتعصب والغلو.
وأتذكر جيدًا حديثها عن الفن، ومتابعتها للأعمال الفنية الهادفة، مثل مسلسل “سارة” بطولة الفنانة الشهيرة حنان ترك.
وتاريخ الدكتورة عبلة الكحلاوي، والتي كانت معروفة أيضًا باسم “ماما عبلة”، تاريخٌ مُشرف، منذ نعومة أظافرها، ومرورًا بحياتها الأكاديمية والمهنية، وعملها الخيري. وسعدت كثيرا عندما قرأت عن أسماء مؤلفاتها الكثيرة بما في ذلك ديوانها الشعري “ديوان شعري في حب مصر”، ومجموعتها القصصية الواقعية بعنوان “مسافر بلا طريق”.
وعندما رحلت هذه السيدة النقية الطاهرة عن عالمنا، نعاها الكثير من الشخصيات العامة والدعاة في مصر والعالم العربي والإسلامي.
نشأة الدكتورة عبلة الكحلاوي وحياتها
وُلدت عبلة محمد مرسي عبد اللطيف الكحلاوي في 15 ديسمبر عام 1948، وهي الأبنة الكبري للمُنشد الديني المصري محمد الكحلاوي، وشقيقة كل من محمد الكحلاوي، أستاذ العمارة الإسلامية، والمنشد أحمد الكحلاوي.
تزوجت في سن صغيرة من محمد ياسين بسيوني، اللواء المهندس وأحد أبطال حرب أكتوبر، وأحد الذين سافروا إلى ألمانيا لإحضار المواسير اللازمة لتفجير خط بارليف بشكل سري، والذي اختاره لها والدها. وقد استُشهد في الحرب ذاتها. وأنجبت منه ثلاث بنات وهن: مروة أستاذة الإعلام بجامعتي بني سويف وأكتوبر، ورودينة الحاصلة على بكالوريوس تجارة وإدارة أعمال ودبلوم من معهد الدراسات الإسلامية في الشريعة، وتُعد نفسها لتصبح داعية إسلامية على الصعيد العالمي في الدول التي تُرافق فيها زوجها الذي يعمل في السلك الدبلوماسي، وهبة الله التي تخرجت من كلية الصيدلة.
وكانت الكحلاوي امرأة مكافحة، حيث أنها تولت تربية بناتها الثلاثة، عقب وفاة زوجها، وتحملت كامل نفقاتهن بمفردها، مع عملها وفعل خير، وعلقت على ذلك قائلة في أحد البرامج التلفزيونية: “مدد من الله في كل خطوة مشيتها”.
وأردفت: “قبل وفاة زوجي، لم أكن أهتم بفصل ذمتي المالية الخاصة عنه، وكنت أترك له التصرف في إدارة الأمور المادية، وبعد وفاته وجدت نفسي مسئولة عن كل شيء في ظل وجود بعض الأشخاص ذوي أطماع … وكان الله يسخر لي من يساعدني في إدارة أموري، وفي تربية بناتي وتزويجهن”.
رحلة الدكتورة عبلة الكحلاوي التعليمية
حصلت عبلة الكحلاوي على مجموع عالٍ في الثانوية العامة، وكانت تأمل أن تُصبح سفيرة، إلا أنها التحقت بكلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر تنفيذًا لرغبة والدها، وأكملت مسيرتها التعليمية في بيت الزوجية، فحصلت على شهادتها الجامعية عام 1969.
تخصصت عبلة الكحلاوي في الشريعة الإسلامية، وحصلت على الماجستير عام 1974 في الفقه المُقارن في موضوع “الشورى قاعدة الحكم الإسلامي”، ثم على الدكتوراة عام 1978 في التخصص ذاته.
مسيرة الدكتورة عبلة الكحلاوي المهنية
التحقت عبلة الكحلاوي بالتدريس الأكاديمي، حيث شغلت منصب أستاذة الفقه المُقارن بكلية الدراسات العربية والإسلامية للبنات بجامعة الأزهر، ثم انتقلت إلى أكثر من موقع في مجال التدريس الجامعي، منها كلية التربية للبنات في الرياض، وكلية البنات في جامعة الأزهر.
في عام 1979 ترأست قسم الشريعة في كلية التربية في مكة المكرمة. ثم بدأت عبلة الكحلاوي طريقها في مجال التربية للبنات في مكة المكرمة، مُعلنة طرق التفقه في الدين وواضعةً أيديهن علي أمهات الكتب ومخازن علوم الشريعة، مُتأسية بالآية الكريمة التي تقول: “للذين أحسنوا الحسني وزيادة”.
جنبًا إلى جنب مع التدريس الأكاديمي، شاركت الكحلاوي كداعية بوصفها احدى أكبر دعاة الوسط النسائي، فبدأت في إلقاء دروس يومية بعد صلاة المغرب للسيدات بالكعبة لمدة عامين (1987 – 1989)، حيث كانت تستقبل خلالها النسوة المسلمات من سائر أنحاء العالم.
وعقب عودتها إلى القاهرة استكملت عملها الدعوي، واستكملت دروسها اليومية للسيدات في مسجد والدها الكحلاوي في حي البساتين، وركزت في محاضراتها علي إبراز الجوانب الحضارية للإسلام بجانب شرح النصوص الدينية والإجابة عن التساؤلات الفقهية.
وما لبثت أن كُلفت بإلقاء دروس دينية في الجامع الأزهر، مع درس أسبوعي في بيت الحمد في مسجد المقطم أيضًا. وقدمت برنامج “في حب المصطفى”، والذي بُث خلال شهر رمضان 1428 هجريًا على قناة الرسالة، كما قدمت عددًا من البرامج الأخرى على قنوات تلفزيونية مختلفة منها قناة الناس.
في بداية الألفية ظهرت عبلة الكحلاوي على قناة اقرأ، وترسخ أسلوبها اللين وصوتها الحاني الوقور في أذهان مُتابعيها، مع إطلالتها الدائمة بثيابها البيضاء التي حرصت على الظهور بها على مدار مسيرتها الإعلامية.
ركزت الكحلاوي على السيرة النبوية والجانب الأخلاقي الروحاني، ولم تتطرق قط إلى طرح القضايا الجدلية والعقائدية الشائكة مما عرضها لبعض الانتقادات، ولكن هذا يدل على أنها شخصية مسالمة ولا تسعى لإثارة الجدل والمشاكل.
أعمال الدكتورة عبلة الكحلاوي الخيرية
قدمت عبلة الكحلاوي دعمًا مميزًا في مختلف المجالات الإنسانية والاجتماعية، فأسست جمعية الباقيات الصالحات الخيرية في المقطم لرعاية الأطفال الأيتام والمعوزين، والأرامل والمطلقات، والرعاية الطبية المتكاملة لمرضى الزهايمر والسرطان، مع المساعدات والقوافل الطبية لقرى مصر ومحافظاتها، وتطوير العشوائيات، وتوصيل المياه ومُعالجة الأسقف وقت السيول، وتجهيز العرائس، من خلال إنشاء دار أبي لرعاية المسنين، و دار أمي لرعاية المُسنات المُصابات بالزهايمر، ودار ضنايا للأطفال المصابين بالسرطان، الذين يأتون مع أسرهم من الأقاليم لتلقي العلاج بالقاهرة، ولا يوجد مكان لهم بالقاهرة خلال فترة العلاج، بالإضافة إلي مجمع الباقيات الصالحات في المنطقة ذاتها.
وأوصت الكحلاوي باستمرار عمل جمعية الباقيات الصالحات وعدم إغلاقها مع تكثيف العمل الخيري بها، مع مسجد الباقيات الصالحات لتحفيظ القرآن الكريم، جنبًا إلى جنب مع المستشفى المُلحق بها وأن تكون مُتاحة لجميع المُحتاجين.
مؤلفات الدكتورة عبلة الكحلاوي
ألفت الدكتورة عبلة الكحلاوي عدة كتب وإصدارات تتناول عددًا من القضايا الفقهية والدينية منها: “مسافر بلا طريق”، و”البنوة والأبوة”، و”بنوك اللبن: شبهات حول بنوك اللبن”، و”الخلع دواء ما لا دواء له: دراسة فقهية مقارنة”، و”سلسلة كتب فقه النساء: قضايا المرأة في الحج والعمرة”.
وبالنسبة لكتابها “ديوان شعري في حب مصر”، أظهرت عبلة الكحلاوي الحس الوطني الذي تملكها، وكتبت عن حبها لزوجها الكثير من القصائد، منها قصيدة عند ذهابه إلى الجبهة قبل حرب أكتوبر عام 1973.
رحيل الدكتورة عبلة الكحلاوي
تُوفيت عبلة الكحلاوي في القاهرة بتاريخ 24 يناير 2021 ميلاديًا، الموافق 11 جمادي الأخر 1442 هجريًا، عن عمر ناهز 72 عاما، وذلك إثر إصابتها بفيروس كورونا المستجد.
ونعاها الكثير من الشخصيات الهامة في مصر والعالم العربي والإسلامي، فقال الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر عنها: “رحم الله الدكتورة عبلة الكحلاوي. كانت نموذجًا للمرأة الصالحة لدينها ومجتمعها. سلكت طريق الدعوة إلى الله فألفتها القلوب وأنارت بعلمها العقول … جعلها الله عونًا لمساعدة الفقراء والأيتام. فاللهم تغمدها بواسع رحمتك ومغفرتك، واجعل علمها شفيعًا لها. إنا لله وإنا إليه راجعون”.
ونعاها مفتي جمهورية مصر العربية شوقي علام قائلًا: “الفقيدة الدكتورة عبلة الكحلاوي – رحمها الله – كانت من العالمات العاملات، فقد جمعت بين علوم الشريعة علمًا وتعليمًا، وبين العمل الخيري، حيث أسست واحدة من أكبر الجمعيات الخيرية في مصر التي تقوم بالكثير من أعمال الخير والبر”.
كما نعتها فنانات مصر مثل الفنانة وفاء عامر والفنانة نشوى مصطفي، ونعاها محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة قائلًا: “إن الدكتورة عبلة الكحلاوي رحمها الله، كانت تُمثل نموذجًا للداعية الأم وتعكس سماحة الإسلام ورحمته ووده، ولها إضافات حقيقية في مجال الدعوة وقدمت الكثير من المساعدات وأعمال الخير من خلال جمعيتها الخيرية. أدعو الله أن يتغمدها بواسع رحمته، وأن يسكنها فسيح جناته، وأن يرزق أهلها الصبر والسلوان”.
لم تذهب جهود الدكتورة عبلة الكحلاوي سدى، بل تلقت التكريم الذي يليق بها وبمكانتها وبما حققته من إنجازات على مستوى الدعوة الإسلامية والعمل الخيري.
ففي عام 2020، كرمتها رابطة المرأة العربية والإفريقية في اليوم العالمي للمرأة، واُختيرت أمًا مثالية بالإجماع في ذلك العام على مستوى الجمهورية لما تُقدمه للمجتمع من دور تثقيفي وتنويري.
رحم الله الدكتورة عبلة الكحلاوي وأدعو الله أن يرسل للأمة الإسلامية نساء على خطاها، يكملن المسيرة التي بدأتها.



