
حديث الصباح
قضت فضيلة ليلتها قلقة، تتقلب في فراشها يمينا ويساراً، ومع كل حركة تصدر صيحتها التي اعتادت عليها منذ بضع سنوات، كلما تألمت وتأوهت.
نظرت إلى شرفة غرفة ابنها سعيد التي اعتادت النوم فيها منذ أن تزوج واستقل بحياته، وتركت غرفتها لزوجها؛ لتشعر بحريتها على الأقل في البضع ساعات التي تقضيها نائمة، التي تتوجع في معظمها وتتأوه من عظامها وآلامها
وتردد زادخير الدنيا، إلى هنا، ها أنا تجاوزت السبعين، وتبقى بضع شهور وأتمم عامي الثمانين، والخمسة وخمسين من عمر زواجي – أقصد إعتقالي الذي طال ولا يشفع لي معه حسن السير والسلوك لخلاصي من هذا الكئيب. وكل يوم أقول في نفسي لعلي أموت وتنتهي رحلتي معه .. وإذا خطر ببالي أن ربما يموت هو، أنزعج وأطرد الفكره من رأسي. أيرتاح قبلي؟
حاولَت فضيلة أن تنزل قدميها من أعلى سريرها، وتدخلهما بصعوبة داخل نعليها، وإستمرت في حديث النفس – كبرتِ يافضيلة ولست قادرة على الحركة. وأخذت تعلو بتأوهاتها مرة أخرى.
قررت اليوم أن أتكلم مع سعيد، وأفضفض له عما يجول بخاطري، وأطالبه بتحقيق مأربي، فقد يكون آخر مطالبي في الحياة .. أريد أن يسعى في طلاقي من أبيه أو أخلعه، وهو إبني البكري، لابد وأن يساعدني وإلا سيتحمل ذنبي، ويعرف أنه قصر في حقي. لقد تعبت من هذا الرجل وتجبره علىّ .. وسأطلب من سعيد أن يلحقني بدار للمسنين، ويجمع نقودها هو وأخته وأخيه الصغير، فأخيه سمير يعمل خارج البلاد ويستطيع المساعدة في مصاريف الدار.
سأتصل عليه بعد صلاة الفجر وأبث له أخباري، وأعرف رأيه، وهو يعرف كم شقيت وتعبت من أجلهم جميعا، ويعرف كم تحملت ظلما وقسوة من رجل دائم التشدق بحبه لي، وعدم قدرته البعد عني، ومع ذلك يعاملني بقسوة ويلوموني على كل كبيرة وصغيرة، ويشعرني بأسري ويستخف بشكواي حتى مللته ومللت الحياة معه.
سأرسل رسالة لسعيد حتى لايقلق إذا اتصلت به مباشرة. سأكتب له أني أريده في أمر هام …
فكرت فضيله هنية.
لا .. سأرسل له أولاً أسأل عن زوجته وأولاده وكيف حالهم، وأخباره في عمله، فقد شغل بالي بمشاكله مع رؤسائه في العمل، وأوصيه أن يسأل على إخواته، فهو كبيرهم، وليس لهم غير بعض، بعد ذهابنا أنا وأبيه عن الدنيا .. أطمئنه أولا ثم أبث له غرضي الحقيقي من الرسالة.
ها قد أحضرت تليفوني المحمول … وأضأت نور المصباح الجانبي .. أين ذهبت يا صحتي؟ وأين قوة أطرافي؟ كنت أعمل ليل نهار، واليوم حمل التليفون الصغير يجهدني .. أين ذهابي بأولادي لمدارسهم ثم النادي في مواعيد تدريباتهم وإعداد مأكلهم وملبسهم وغيره وغيره …
صباح الخير ياحبيب قلبي سعيد – كتبت فضيلة رسالتها لسعيد ابنها ونهضت لتؤدي صلواتها.
الممر بين الغرف أصبح طويل حتى أصل إلى دورة المياه.
وفي نفس التوقيت خرج أبو سعيد من غرفته إلي الممر ليقطعه إلى دورة المياه كي يتوضأ لصلاة الفجر.
أبو سعيد: صباح الخير يا فضيلة.
فضيله: صباح الخير.
أبو سعيد: تعبان أوي يافضيلة. بعد أما تصلي إصنعي لي مشروب ساخن.
فضيله: حاضر.
وما أن انتهت فضيلة من صلاتها حتى سمعت جرس تليفونها المحمول.
سعيد: صباح الخير ياماما وحشتيني أوي.
فضيلة: وأنت أيضا حبيبي .. أخبارك إيه؟
سعيد: الحمد لله بخير .. الدنيا كلها تعب وزهق مَبيهَوِنش علىّ إلا إني أراكِ أنت وأبي نهاية الإسبوع، ونتجمع مع إخواتي وأولادهم، ونأكل من طعامك الذي تصنعيه بحب، كأنه طعام الجنة، ونري فرحة أبي بأحفاده … هذه هي السعاده الإسبوعية. بل السعاده الكلية إللي بعيشها معاكم، بتنسيني تعب الإسبوع كله .. ربنا يباركلنا فيكم يا أمي أنتِ وأبي.
فضيلة: نحن أيضا ننتظر هذا اليوم وكأنه يوم عيد … لا تتأخر علينا … سأصنع لكم الطعام المفضل لكل منكم.
سعيد: أحب أي طعام تصنعه أمي.
أنهت فضيلة المكالمة، ونسيت – أو تناست – ما كانت تنوي أن تحدث سعيد فيه، ودخلت مطبخها ببطء حتى لا تفلت قدميها فتسقط، وإستندت على الحائط لتصنع كأس نعناع لزوجها، فقد ألم به تعب الشيخوخة كما ألم بها.



