مقهى النصف الآخر

المدينة المشتعلة

مَن أشعل النار؟

“هذه لم تكن حربا ولا مزحة سخيفة، تشعلون النار حولنا لتحاربوا الأعداء!”

 

طال اللهب بيوت المدينة، وأجهش الناس في البكاء، فر مَن فر، وقعد الباقون ينظرون. تحرك حشد منهم نحو ألسنة اللهب الشاهقة، مثل فَراش يقع في النار، مفتونون بالضوء المنبعث من داخل ألسنة اللهب، سجد بعضهم لها، قبل أن يرتمي في أحضانها.

مَن أشعل النار أول الأمر؟

لا أحدَ يعرف، أو أنه لا أحد غيري سأل. لا يهم الآن، الأهم أنها صارت جزءا من مدينتنا، استحقت لقبا لم تلقَب به مدينة من قبل ….

“المدينة المشتعلة”

 حتى أننا نسينا اسمها قبل تلك الحادثة الأولى.

 

“ها هم الأعداء قادمون من البحر”، عيونهم تلمع ببريق الطمع، لا يمكن أن يكون بريقَ نصر، فلم يكن لدينا جيش ولا حامية، فمعركة من طرف واحد هي مذبحة ليس إلا، فإما أن تموت برصاصة في الصدر أو من الظهر، أو تهرع لحتف لا تشبهه الحتوف، يقضي على الجميع، لكن ما حدث كان أكثر سخرية!

 

“اقترب الأعداء يتصايحون”

 يؤملون في الغنائم، وينظرون إلينا نظرة استحقار واستهانة. اقترب طفل من المراكب الرابضة على الشاطئ، وأشعل عود ثقاب كان يلعب به في المراكب، وهو يصيح: ‏”مرحبا بالأعداء…مرحبا بالأعداء”.

نظر الأعداء إلى مراكبهم المشتعلة، فاغروا الأفواه، انطلق اثنان منهم يحاولان بلا جدوى إطفاء النيران، حتى قفزا إلى البحر مسرعين، هربا من المدينة كلها، و أكلتهم الحيتان.

 

ظلت النيران تنتقل من مركب إلى مركب. رقصَ لهيبها على موسيقى الصمت تلك، المتبوعة بتحطم كل شئ، وغاب الجمع في سَكرة عجيبة، تبعها جنون!

ابتهج أهل المدينة، وصاح أحدهم: “فلنشعل النيران ترحيبا بالضيوف الجدد”.

 ‏أشعلها في بيته، وجعل كلٌ منهم يتسابق إلى الترحيب بهم، والنيران آكلة من مأدبة الاحتفال كل من قابَلته، حجرا كان أو شجرا أو بشرا. رقص أهل المدينة ابتهاجا، أما الأعداء، فقد هرعوا إلى النيران بأنفسهم، ينظرون إليها في افتتان بالغ، سجدوا أمامها، قبل أن يحوزوا شرف الانضمام إلى مأدبة النيران الصاخبة.

صفق أهل المدينة إعجابا بهم، وكلما خفتت النار قليلا زادوها اشتعالا، حتى بلغ اللهب عنان السماء، وصنعت قبة من دخان كثيف، يخفي تحتها رمادا، لم يزل أسود.

بواسطة
أحمد النظامي

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى