
الانشغال المميت
بعض الامهات لديها هوس بأن تشغل كل دقيقة في يوم طفلها. فيصحو الطفل لكي يقوم بالذهاب إلى المدرسة، ثم يعود لكي يأكل سريعاً، ويذهب إلى التمرين الرياضي، وبعدها إلى حفظ القرآن أو نشاط آخر مثل الرسم أو الموسيقى. ثم يأتي وقت الاستذكار، وقت الشد والجذب، والحروب ما بين الأم وطفلها. فالطفل منهك ومتعب، ولا يستطيع الجري دون التقاط أنفاسه. ولا يستطيع أن يلتقط أنفاسه أو أن يستمتع بطفولته.
هذه الامهات أمهات جميلات، ونيتها سليمة، وتتخيل أن ما تبذله من جهد فائق من جري من درس إلى درس، ومن نشاط إلى نشاط، هو ما سيجعله إنساناً ناجحاً ومتفوقاً. وهذه الأم تضحي بوقتها وصحتها البدنية والنفسية.
ولكن الواقع يقول غير ذلك، وعلم النفس يقول غير ذلك، فالطفل المنهك ذهنياً وبدنياً لا يستطيع الاستمتاع بالاستذكار، ولا يستطيع التحصيل الدراسي الصحيح وهو متعب. فلا يستوعب كل ما يملى عليه بالمدرسة، ثم الواجبات، ثم بعد ذلك الدروس.
بل وفي بعض الأحيان، تدفع الأم طفلها إلى نتيجة عكسية تماماً من الهدف الأساسي، فينتهي إلى كراهية الدراسة وكراهية المعرفة. وعندما يشرف الطفل على مرحلة المراهقة، تتحول هذه الكراهية إلى محاولة اثبات لذاته وشخصيته، لأنه يشعر بالقمع من الأم والأب، اللذان يشغلان وقت الطفل أو المراهق طيلة الوقت، ويفرضان عليه أنشطة معينة، ويفرضان عليه استذكار وتحصيل، وحياته كلها عبارة عن جدول طويل منذ لحظة استيقاظه وحتى لحظة نومه.
هذا الطفل طفل منهك، منهك جسدياً ومنهك نفسياً، ومكره على ما لا يحبه ولا يستمتع به، بل لا يستمتع بطفولته أو حريته، ولا يتعرف على هوايته الحقيقية أو المواد التي يميل إليها عن اقتناع. فكل المذاكرة مفروضة عليه، وكل الأنشطة الرياضية مفروضة عليه، وكذلك الأنشطة الإضافية. فهذا كله للأسف يأتي بنتيجة عكسية.
والدراسات النفسية تشير إلى أن الطفل يتمرد ويتحول إلى مراهق عنيد، وتتولد لديه الرغبة في الكبر والعند واثبات الذات. وبدلاً من أن يصبح الطالب المثالي المتفوق، الذي يقوم بكل أدواره، على خير وجه كما تحلم الأم، يتحول إلى هذا المتمرد المشاغب، وأحياناً ينحرف ويستقطب من قبل الأصدقاء المختلفين – فالممنوع مرغوب.
وهذا الطفل لا يستمتع بمساحة حرية، فالدراسات النفسية تناشد الآباء بأن يمنحوا أبنائهم مساحة من الحرية، ومساحة غير مخططة unstructured، فالطفل عندما يلعب بحرية وينطلق بحرية، يتعرف على هواياته، وأحياناً يولد الملل الابتكار والخيال والابداع. وتشعر هذه الأم المتعبة المرهقة المضحية، بأن جهدها ذهب هباء، رغم أنها قامت بمجهود نفسي وجسماني رهيب، ولا تستطيع هي بالتالي الاستمتاع بحياتها، ويتحول دورها كأم إلى آلة وجدول ومهام، مثل العصفور المسجون.
عندما تعطي العصفور الحرية، ينطلق ويغرد، أما إذا حبسته، وقننت تحركاته، فإنه يحزن ويذبل وأحياناً يموت.
هونوا على أولادكم وعلى أنفسكم، فالحياة لحظة، والاطفال يتذكرون اللحظات الجميلة مع الآباء، ويتذكرون ويكتنزون الأوقات السعيدة. فمجرد الجلوس والتحدث معهم والحوار أو حكي القصص، أفيد نفسياً، ويجعل الطفل سوياً ويشعر أنه محبوب وليس مقهوراً أو مقموعاً.
هونوا على أنفسكم وعلى أولادكم، فالعمر لحظات، والعمر ذكريات، ابنوا معاً ذكريات جميلة مثمرة، ودعوا أولادكم يختارون ما يحبونه ويكرهونه، واجعلوهم يقبلون على الدراسة والانشطة، وعلى الثقافة، باقتناع وحب، لا عن طريق القمع والسجن واكراه.